أصبحنا في اليمن بين خيارين، إما الحفاظ على هذا الوضع الهش والمزري لا سلم ولا حرب بكل شواهد البؤس والفقر المريع، وإما الانزلاق نحو حرب واقتتال شامل طاحن غير معروف العواقب والنتائج.
معركة السلطة الشرعية ليست في الحديدة والبحر الأحمر وحدها بل في استعادة الدولة في اليمن كلها.
فالرئيس الدكتور رشاد العليمي أعلن منذ اليوم الأول لتوليه السلطة أنه يحمل راية السلام بيد وخيار الدفاع والمواجهة باليد الأخرى بشفافية وحزم دون مواربة.
لكن ما لم يحسمه الأمريكان والبريطانيون في معركتهم مع مليشيات الحوثي الإيرانية بالصواريخ والطائرات وأسلحة الليزر قد لا يحسم بسهولة بما هو أقل مع تململ الدعم الدولي للحكومة الشرعية الذي لا يزال في حكم الغيب خصوصاً مع تخبط الحسابات الأمريكية-البريطانية وتباكي الأولى على قيمة الصواريخ والقنابل التي تطلقها وتسول وزارة دفاع الثانية لدعم مالي للمعركة من الاتحاد الأوروبي.
أما الانقلابيون الذين يقاتلون برواتب الموظفين ومعاشات المتقاعدين وموارد الزكاة وإيرادات مؤسسات الدولة الأخرى فبيدهم خيارات التخلي عن ارتهان اليمن للعبة المشاريع الدولية الدخيلة وطموحات الحكم العائلي غير المشروعة والإذعان لإرادة الشعب اليمني في العيش الكريم بأمن وسلام بقواعد التسوية العادلة وديمقراطية صناديق الاقتراع, أو أنهم يحشدون كما هم الآن حول مأرب وشبوة وتعز والضالع للخيارات الأسوأ وتفجير البيوت على رؤوس ساكنيها تحت أوهام تمكين السيد القائد عبدالملك من حكم كل اليمن على نهج الخميني بذريعة الدفاع عن غزة.
مناورات الحوثي
يراهن الحوثيون على إزاحة السلطة الشرعية كطرف أول رئيسي يمثل اليمن ودولتها، والالتفاف على قرارات الشرعية الدولية عبر حوارات ثنائية مع السعودية، وإذا لم فبشن حرب جديدة أخرى تظهر بوادرها في الأفق.
ولا يزال الأشقاء عند آخر جملة قالها وزير خارجيتهم في الرياض بعد آخر لقاء مع وفد الحوثي بعد لقاء صنعاء الرمضاني: نحن مع الحل السياسي والتسوية الشاملة في اليمن تحت إشراف الأمم المتحدة) في تعارض واضح مع إصرار الانقلابيين على انسحاب أي قوات عربية سابقة- أو قوات مراقبة وحفظ سلام أجنبية أممية أيضاً لتمكينهم لاحقاً من إكمال السيطرة على البلاد بخوض حرب مفتوحة بدأت نذرها.
الصحافة الغربية التي تحدثت عن عدم ثقة واشنطن ولندن بقدرات الشرعية لم تخبرنا عن ما فعلته قوى عظمى مثل أمريكا وبريطانيا حتى الآن في معركة البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن ولا في الحديدة..
كأنهم لا يتذكرون حين رفع الحوثي وجحافله المحاصرة شارة الاستسلام قبل أسبوع على اتفاقية ستوكهولم المشؤومة التي انتزعت انتصار الحديدة من قوات الشرعية وأهدته لأعدائها.
تصدير الأمريكان وغيرهم إخفاقاتهم وفشلهم للآخرين والرهان على الغير في حسم معركتهم وعدم تحمل نتائجها نوع من الهزيمة الذاتية الخاصة وسلوك عدواني(سايكوباثي).
ومعركة الحديدة بالأساس أمريكية- بريطانية، فكما سلموا الميناء والمدينة والمطار التي كانت محاصرة للحوثي عليهم استعادتها منهم أولاً حتى تبنى على ذلك حسابات أخرى.
وعود في الهواء
لا يقدم الأمريكيون ولا غيرهم الحد الأدنى المعقول لسلطة اليمن الشرعية لا على المستوى العسكري المعداتي- التدريبي والمالي ولا في تعزيز سيطرة السلطة وتماسك الجبهة الداخلية-المجتمعية والسياسية لقوى تحالف الشرعية.
فالرئيس الدكتور رشاد العليمي منذ تدمير الحوثيين منصات تصدير النفط والغاز في حضرموت وشبوة وانقطاع الإيرادات السيادية للدولة قبل عام ونصف يقضي معظم زيارات العمل الخارجية الرسمية الطويلة في مكابدة الحصول على الحد الأدنى والضئيل من مساعدات سد عجز رواتب الجيش والأمن وموظفي الحكومة أمام انهيارات معيشية يومية.
وفقدت الأجور التي كانت زهيدة من قبل أصلاً قيمتها الشرائية بسبب الضرائب الصاروخية الجديدة الباهظة على الواردات والاستهلاك وعجز الناس والأسر عن توفير الحد الأدنى المعقول من الغذاء اليومي.
لا ندري كيف يستطيع رئيس دولة غارق بمعركة احتياجات مواطنيه الأساسية من لقمة العيش التفرغ الحقيقي لإدارة معركة كبرى تصل بمعطياتها إلى مستوى حرب عالمية دون حصول سلطته على دعم حقيقي لتسيير حياة مواطنيه، أموال وتسهيلات، وبعدها أسلحة ومعدات لا تعجز الحلفاء العرب ولا غيرهم ممن يطالبوننا بمحاربة الحوثي بصدور عارية وبطون خاوية.
يطمع اليمنيون في ظروف الحرب القاهرة بالحد الأدنى من العيش الكريم وليس أن ينتقل بها العليمي إلى مصاف سويسرا كما طالبه بذلك أحد النزقين قبل سنة.
فكيف سيكون التزام هؤلاء الأخلاقي الواقعي لقضايا كبرى مثل معركة إعادة تحرير البلد من خصم خبروا قدراته وحجم الدعم الإيراني- الروسي- الصيني- الكوري الأسطوري له قرابة عشر سنوات حتى أصبح ينافس مؤخراً أمريكا وبريطانيا بالسلاح الإيراني-الروسي ويتقدم عليها أحياناً.
أكبر خطأ هو حصر أي دعم عسكري على قوات وأحزمة السواحل، من قوس الساحل الغربي، الحديدة، باب المندب، المخا إلى خليج عدن، بحر العرب، وسقطرى أخيرا.
وإذا اندلعت معركة كبيرة في الحديدة فستدخل اليمن كلها والمنطقة في حرب لا تبقي ولا تذر، كونها مصيرية وفرصة أخيرة للأطراف الداخلية كلها في الحسم النهائي، واعتبارها مصيرية للقوى الكبرى أيضاً من حسابات مختلفة لجهة مصالحها التجارية والاقتصادية والعسكرية، ومن جهة الفرص المواتية لتصفية الحسابات، خصوصاً محور روسيا والصين وإيران المؤازرة للانقلابيين.
التورط الروسي في اليمن
لا يخفي الضخ الإعلامي الاحتفالي الروسي بالحوثيين ممارسة حرب نفسية انتقامية تحريضية كبيرة على الطرف الآخر الأمريكي الأوروبي، لا تضع موسكو من خلالها مسافة معقولة في خطابها بين مصلحة الشعب اليمني وحكومته الشرعية وبين رغبتها الثأرية من داعمي أوكرانيا بأي ثمن على حساب مصلحة شعب آخر في بلد ممزق لا يحتمل مؤامرات إضافية.
كل تصريحات وإرشادات الرئيس بوتن ووزارة خارجيته والناطق الرسمي, ووسائل الإعلام المختلفة منشورة وموثقة, تنفخ في غرور الحوثيين الذين حددوا حجم أمريكا والغرب في البحر الأحمر لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية بحسب الرئيس فلاديمير بوتن.
ومواقف مندوب روسيا في الأمم المتحدة الأخيرة الداعمة لقضية الشعب الفلسطيني في الظاهر تتمنى في باطنها أن لا تنتهي مأساة ومجازر غزة إذا قرر الحوثيون وقف هجماتهم في باب المندب وخليج عدن والمحيط الهندي والبحرين الأحمر والعربي بانتهاء المحرقة الصهيونية، ولا حيث تضرب أدوات الخميني الأخرى قواعد أمريكا العسكرية ومصالحها في سوريا والعراق.
أما ترويج وسائل الإعلام الروسية قبل أيام لقرب امتلاك الحوثيين برنامج فضائي على غرار كوريا الشمالية بعد الصواريخ الفرط صوتية التي حصلوا عليها كمكافأة بطرق ملتوية, يعني أن روسيا بالتعاون مع إيران قررت تحويل اليمن إلى قاعدة عسكرية وصناعية حربية لها مثل كوريا لمواجهة خصومها, ويراهنوا بقوة على تمكين دولة ونظام حكم الحوثيين من رقاب اليمنيين بصرف النظر عن إسقاط احترام روسيا لسيادة وشعب اليمن ودولته من حساباتها.
يكشف التناقض الأخلاقي لموسكو الوجه الآخر غير الحميم لها، بعكس ما رسمته مخيلة الأجيال العربية عن نصرة الاتحاد السوفياتي لقضايا الشعوب المضطهدة والمقهورة طوال القرن الماضي عندما دعموا حركات التحرر من الاستعمار والهيمنة الغربية لتظهر في اليمن اليوم بوجه عبثي مدمر مناصر وداعم للظلم والاستبداد بأعتى أسلحة الدمار الشامل ومناهضة قيم الحرية والعدالة الاجتماعية واستقلال الشعوب.
يتماهى سلوك فلاديمير بوتين ومعاونوه مع عقليات توحش القرون الوسطى القادمة من أدغال وهمجية التاريخ.
لا دخل لليمنيين باستدراج بوتين لحرب أوكرانيا إلا أنهم أخطأوا التعاطف منذ البداية مع روسيا التي تطعنهم من الخلف الآن.
ولا نصاب بالصدمة إذا تفاجأنا بالطيران الحربي الروسي يدمغ ولاءه للانقلابيين في اليمن بقصف قرى ومدن ومساجد البلاد على رؤوس ساكنيها كما فعل ذلك من قبل ولا يزال في ريف دمشق والحسكة حلب وحمص ودير الزور وباقي سوريا، وكما يفعل أصدقاؤهم الحوثيون في رمضان المبارك بتفجير البيوت في البيضاء وغيرها على رؤوس الأطفال والنساء الآمنين لدعم صمود غزة.
موقف الحكومة اليمنية
حسن النوايا التي حملتها زيارة رئيس الوزراء أحمد بن مبارك إلى روسيا قبل أسبوعين على ما يبدو لم تحقق أي اختراق حقيقي لجهة حيادها فضلاً عن افتراض دعمها لمواقف الحكومة الشرعية وليس تآمرها عليها وعلى الشعب اليمني بالمكشوف على الهواء مباشرة وبالفرط صوتي.
وربما قريباً تصدير الصواريخ العابرة للقارات والكيماوي والنووي للحوثة لتصفية حساباتها مع الجميع.
كانت دولة الدب الروسي قوية بأخلاقياتها السياسية وأدبياتها المتوازنة في نصرة القضايا العادلة للشعوب لتتحول إلى كيان قزم بتصرفاتها الانفصامية الراهنة حين تشكو من التدخل الأمريكي- الأوروبي في أوكرانيا وتمارس هي تدخلات أسوأ في اليمن بتأجيج الصراع والفتن الداخلية والإحتراب ودعم وتمكين الطرف الظالم ضد شعب مضطهد يطالب بحياة حرة كريمة.
وقد تدخلوا من قبل وإلى اليوم مع الحرس الثوري الإيراني في سوريا بصورة ميدانية مباشرة لذبح وقتل المدنيين الأبرياء بأسلحة محرمة دولياً.
لا نعلم أي تحركات لوزارة خارجية اليمن وسفيرها في الأمم المتحدة في موضوع كهذا تقحم فيه روسيا ورئيسها الميكافيللي الجديد فلاديمير بوتين الآخرين كباش فداء لثأراتها وطموحاتها غير المشروعة في اليمن على حساب دولة مستقلة ذات سيادة.
صدمة الصين في اليمن
كما روسيا الساعية إلى الانتقام من حرب أوكرانيا وأمريكا في اليمن، فضلت الصين استعادة تايوان وجزرها المستعمرة من اليمن أيضاً، وتحشد أسطولها الحربي وقطعها البحرية باسم تأمين الملاحة والتجارة الدولية في المياه الإقليمية وتمد الحوثيين بكل تقنيات ووسائل تهديد الأمن والسلام العالمي.
لكن صدمة الصين غير المتوقعة من مشروع طريق التجارة الهندي في جزيرة سقطرى قد يعيد تحديد ورسم أولوياتها وأهدافها في المنطقة وطبيعة تحالفاتها.
إما الاصطفاف الثأري خلف جنون الدب الروسي المتهور للانتقام أو تكون مع مصالحها الاقتصادية الإستراتيجية الخالصة النزيهة بعيداً عن التحرش العسكري غير المشروع بالهند في اليمن أرض غيرها.
تقول حكومة الصين في صفحتها الرسمية بالعربية على مواقع التواصل الاجتماعي: أن الولايات المتحدة ودولة الاحتلال تدفعان الهند لتصدر المواجهة في المنطقة).
والتهديد الضمني المبطن للهند يحمل مؤشرات ضعف موقف وحجة الصين أكثر من التلويح بقوتها العسكرية تجاه الخصم الذي يعتقد أنه قادم إلى المنطقة لحماية مصالحه التجارية والاقتصادية التقليدية وتأمين الممرات البحرية المشتركة تاريخياً بين الهند واليمن من عبث القرصنة البحرية التي تزود الصين وروسيا بصورة ممنهجة خلاياها الحوثية في اليمن بمختلف تقنيات المعدات الهجومية للإضرار بالمصالح الطبيعية الحيوية للآخرين.
وتفقد الصين الحكمة والعقلانية ورصانتها المعروفة عنها بمزاعم إرسال قواتها البحرية إلى بحر العرب وباب المندب وخليج عدن لحماية وتأمين حرية الملاحة والتجارة وإمداد الجناة الأصليين بأدوات الجريمة.
بكل حسابات مصالح اليمن الوطنية ومنطق التاريخ والجغرافيا المشتركة مع الهند وحقها الطبيعي في حماية مصالحها اختارت الصين الوقوف مع الشيطان بالأفعال ضد قضية شعب عادلة لتمكين الانقلابيين من رقاب اليمنيين.
وسيكون على الصين التي استعارت كذبة التعاطف مع غزة من أصدقائها الحوثيين توضيح ما إذا كان إرسال أساطيلها العسكرية إلى مياه اليمن الإقليمية والمتاخمة للمحيط الهندي أنها تنوي بالفعل تأمين حرية الملاحة والتجارة الدولية أم الوقوف ضد مصالح اليمن في استثمار ثرواتها الحيوية في سقطرى وغيرها، وخلط الأوراق الأمنية أكثر خصوصاً بعد تهديدات الحوثيين المتزامنة مؤخراً لاستهداف مواقع إسرائيلية زعمت وجودها الصين أيضاً في جزيرة سقطرى كذريعة تحرش استعارتها من عصابة الحوثيين.
من حق الصين أن يكون لها طريقها التجاري عبر جيبوتي أو غيرها، كما للهند وغيرها الحق نفسه في سقطرى أو ميناء عدن ما دامت تحترم الحقوق السيادية الوطنية المترتبة عن التعاقد مع الحكومة الشرعية.
لكن الصين بسلوكها المتهور تؤذينا مرتين الأولى بدعم الحوثيين التكنولوجي العسكري، والثانية بعرقلة استثمار الموارد الحيوية البديلة للنفط والغاز التي أوقف الحوثيون تصديرها بأسلحة صينية-إيرانية-روسية مشتركة لتغامر بذلك أيضاً بمستقبل مشروعها (طريق الحرير) لصالح معاركها الصغيرة ونزعة الهيمنة والاستحواذ.
هل تحافظ الصين على سمعتها كدولة عظمى متوازنة في مواقفها السياسية والعسكرية تجاه البلدان والشعوب الأخرى أم أن الحوثيين يشدونها إلى حروب العصابات والأفيون الشهيرة قبل أن تصبح دولة عصرية حديثة.
أليس تحرير واستعادة تايوان أنفع من هروب الصين إلى اليمن ومجاراة سياسة روسيا الانتقامية الثأرية التي ليس لها ما تخسره مثلها أكثر من محنة أوكرانيا التي أفقدتها القدرة على التمييز بين الأصدقاء والخصوم، وبين ما هو عادل كقضية حق تحرر الشعب اليمني من الانقلابيين وبين إمدادها العسكري المباشر وغير المباشر للبغاة المجرمين لتمكين عصابات الظلم والاضطهاد والهيمنة على حساب القيم الأخلاقية الإنسانية التي طالما صدعت رؤوس المخدوعين بها.
والنتيجة:
فالأوضاع مرشحة إلى تصعيدات أكبر طالما وجد الكبار في اليمن أدوات رخيصة ولئيمة مثل عصابة الحوثي لتحقيق مصالح كبرى لبلدانهم على حساب أمن واستقرار ووحدة اليمن ومستقبله المجهول.