نصت دساتير الدولتين اليمنيتين السابقتين في الشمال والجنوب، على وحدة الأرض والإنسان اليمني، حيث نصت المادة الخامسة من الدستور الدائم للجمهورية العربية اليمنية عام 1970 على ما يلي ( اليمن كل لا يتجزأ والسعي لتحقيق الوحدة اليمنية واجب مقدس على كل مواطن) كما نصت المادة الأولى من دستور جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية 1978 على ما يلي : جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية جمهورية ديمقراطية شعبية ذات سيادة وهي دولة تعبر عن مصالح العمال والفلاحين والمثقفين والبرجوازية الصغيرة وكافة الشغيلة وتسعى لتحقيق اليمن الديمقراطي الموحد.. ونصت المادة الثانية ( الشعب اليمني شعب واحد وهو جزء من الأمة العربية والجنسية اليمنية واحدة وتكون اليمن وحدة تاريخيّة واقتصادية وجغرافية واحدة).
ونشأ جيلنا وجيل آبائنا على الوعي والتمسك بوحدة اليمن واليمنيين حتى تحققت، وتكلفت اليمن من أجل ذلك الكثير من النضالات والتضحيات والإمكانيات، ويأتي الآن من يُفْرِط في الخبال، ويريد أن يعيد تجزئة بلادنا بعد ما توحدت، ويتحدث بعضهم بعد ثلاثين عاماً من تحقيق الوحدة، ويقول : إقنعونا بالوحدة! وكأن الوحدة لم تتحقق بعد.
أما موقف الإقليم فظل يتأرجح، مع وضد وحدة اليمن، بسبب تقلبات الظروف والأحداث، وانطلاقاً من هواجس خاصة خاطئة، مؤداها أن اليمن الموحد القوي يشكل خطراً.. وحيث أجمعت قمة بغداد في أواخر مايو عام 1990 على تأييد الوحدة اليمنية والترحيب بها واحتفت القمة بالرئيسين صالح والبيض، وكان العراق بوجود صدام في أوج قوته، وكان داعماً قوياً لوحدة اليمن، فإن تداعيات زلزال غزو الكويت من قبل العراق، الذي كان خطأً تاريخياً، جعل المجلس الوزاري الخليجي في أبها، في يونيو، 1994 يقف ضد وحدة اليمن، وهدّد بالتدخل المباشر، ولولا الموقف الأمريكي، وحسم الحرب لصالح الوحدة بسرعة، لذهب المؤتمر أبعد من ذلك حينذاك. وقد قدمت بعض دول الخليج حينذاك دعماً هائلاً للإنفصاليين، ومبالغ نقدية كبيرة من أجل إنفصال الجنوب، سنشير لها في مكان آخر، في وقت لاحق.
وبسبب الصراع على السلطة، تفاقمت الأوضاع، بعد الوحدة، وقادت إلى حرب 1994.. واليمن ليست بدعاً، في مسألة الصراع على السلطة؛ وحيث لا توجد تقاليد راسخة للتوالي في الحكم وتوزيع السلطة، فقد يصطرع رفاق الحزب الواحد، أو التوجه الواحد، وحدث هذا في الجنوب والشمال، أو في البيت الواحد أو البيوت المتنافسة، على السلطة مثلما حدث، لحكم آل حميد الدين، في 1948 و 1955؛ وأولاد فيصل بن تركي آل سعود في نهاية القرن التاسع عشر، مما أطاح بالدولة السعودية الثانية؛ ولولا براعة حفيد فيصل بن تركي عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل ، لربما لم تر النور الدولة السعودية الثالثة القائمة الآن، التي لم تخلو هي من صراع أيضاً، دفع بالملك سعود إلى أن يذهب إلى عبدالناصر، وهو خصم السعوديين التقليدي في ذلك الزمن، كما أن سعود زار صنعاء، واليمن ما تزال في حالة حرب مع السعودية. وهذه أمثلة فقط فلا تكاد تخلو أو خلت دولة من دولنا من شكل من أشكال الصراع على السلطة، لكن الكارثة، أن الصراع أتى على الدولة في اليمن، في هذا الزمن، مع تضافر التدخل الخارجي.
ولم تكن حرب 1994 وحدها التي خاضها اليمنيون، في العقود الأخيرة، فقد سبقت حرب الستينات في الشمال وكان ضحاياها أكثر من أربعين ألف قتيل، وحرب الاستقلال في الجنوب، وطرد السلاطين والمشايخ، وكل من له رأي أو موقف، خلافاً للرأي الرسمي، وحرب 13 يناير 1986 الدامية، وكانت ضحاياها، أكثر من حرب 1994، وقد اتخذت أبعاداً جهوية ومناطقية، وتحدثت صحف العالم عن اقتتال القبائل الماركسية. وعلى الرغم من كثرة الحروب في اليمن، يحاول الإنفصاليون أن يجعلوا من حرب 1994، الذنب الذي لا يغتفر! ولو أن كل صراع على السلطة واحتراب، يجب أن يؤدي إلى التجزئة، لنتج عن حرب الستينات تجزئة الشمال، وعن حرب يناير 1986 تجزئة الجنوب، مع أن الرئيس علي ناصر خسر الحرب وخرج بنصف الدولة على الأقل ونصف الجيش! وللمفارقة طلب رفاقه من الرئيس صالح ضرورة إخراجه من اليمن عشية تحقيق الوحدة عام 1990.
ولولا الإندفاع نحو إعادة التشطير، والدفع الإقليمي، بسبب تداعيات غزو الكويت، لربما أمكن تجنب حرب 1994 في اليمن. وكيفما كان الخلاف، والصراع، والحرب، كان يجب أن لا تكون وحدة اليمن محل أخذ ورد، بعد ما تحققت سلمياً، عام 1990؛ وتم الإستفتاء على دستورها، في مايو 1991 بنسبة 98.5 ٪ وبعد جهود وحوارات استمرّت أكثر من عشرين عاماً- بل في الحقيقة منذ مئة عام، منذ زيارة جاكوب لصنعاء في 1919، وزيارة الثعالبي، في 1922 - تكللت بدستور واتفاقية، ودولة اندماجية.
لكنه عبث العابثين وطبع الإنتهازيين وطمع الطامعين.