يبدو أنه، وعبر التاريخ ما قامت دولة إلا بدين، أو لنقل ما نهضت حضارة إلا على أسس دينية، أياً كان دينها. كان العرب مجاميع قبلية متصارعة، وبلا دولة، وبالإسلام انطلقوا شرقاً إلى حدود الصين، وغرباً إلى حدود فرنسا، وكذا كان الأتراك، وبالإسلام تحولت القبائل التركية إلى دولة، أو دول وامبراطوريات حكمت أجزاء واسعة من آسيا وأفريقيا وأوروبا، وقل ذلك عن القبائل الروسية مع الأرثوذوكسية، وحضارة الصين الكونفوشيوسية (الديانة الفلسفية) وفارس الزرادشتية، وغيرها من الحضارات الكبرى التي قامت على أسس دينية، ومنها حضارات أوروبا القديمة المستندة على أديان اتخذت من الطبيعة ـ أو أجزاء منها ـ آلهة تعبد، كالديانات الإغريقية والرومانية، قبل اعتناق قسطنطين الأول المسيحية، واعتمادها ديناً رسمياً للإمبراطورية.
وفي سياق التمازج بين الدين والدولة، وتوظيف السياسة للدين يمكن أن نتحدث عن ما لا يحصى من الأمثلة، فهتلر اتكأ على فكرة «المسيحية الإيجابية» التي تأخذ – خلافاً للمسيحية التقليدية ـ بأسباب القوة الخشنة، وتظهر المسيح «مقاتلاً آرياً ضد اليهود الساميين» كما وظفت النازية المسيحية ضد «الشيوعيين السوفييت الملحدين» وقد كان هتلر في مسيحيته الظاهرية يتمثل فردريك نيتشه، فيلسوف القوة الألماني الشهير الذي لبى طموح «الفوهرر» العارم إلى القوة والتوسع والهيمنة.
أما ستالين «الشيوعي الملحد» فقد عاد «مؤمناً» عندما أفاق الاتحاد السوفييتي على وقع الجيوش النازية تدك المدن الروسية عام 1941، الأمر الذي جعل ستالين يطلب من المواطنين «الدفاع عن دينهم» وقبل هتلر وستالين حاول فرعون توظيف الدين في حربه على النبي موسى، عندما اتهمه بأنه جاء ليبدل الدين ويفسد الوطن: «إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد» وهي ذات التهمة التي وجهتها قريش لنبي الإسلام في مكة.
وفي حين تقوم معظم نظم الحكم في أوروبا على العلمانية إلا أنه يحلو للكثيرين اعتبار الاتحاد الأوروبي «نادياً مسيحياً» في وقت يكثف فيه اليمين الأوروبي والغربي بشكل عام من مقارباته الدينية المسيحية.
كل هذا دون أن نتطرق لنموذج دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تعد تجسيداً واضحاً ليس لتمازج الدين والدولة فحسب، ولكن لقيام دولة على أساس ديني، مع اختيار اسمها «التوراتي» واستيعاب سرديتها التاريخية اليهودية، ومزجها الدين بالدولة والعرقية في الآن ذاته.
كما أن نموذج «ولاية الفقيه» في إيران يعد تجسيداً حقيقياً للنظم الثيوقراطية، حيث «المرشد» – وليس الرئيس المنتخب – هو الحاكم الفعلي لإيران، وهو يتمتع بصلاحيات دستورية واسعة، بل إن الراحل الخميني كان يرى نفسه فوق الدستور، على اعتبار أن المرشد يعد نائباً عن «الإمام الغائب» ويأخذ مشروعيته من شرعية هذا الإمام الذي يتلقى عنه المرشد تعليمات محددة في شؤون الدين والدولة، وهذا موضوع آخر يطول الحديث عنه.
لا يمكن – إذن – فصل الدين عن الدولة. الدولة سلطة، والسلطة تحتاج وسائل القوة الخشنة والناعمة، والدين يأتي ضمن الوسائل الناعمة التي تستطيع بها السلطة تعبئة الجيوش، والتحكم في مسارات الجماهير، وتحريكها في الاتجاه الذي تريد هذه السلطة، عبر سلسلة من التكتيكات ووسائل الخطاب الشعاراتي والأيديولوجي.
وبما أن الدين يشكل جانباً مهماً من التكوين الروحي والنفسي والعاطفي والفكري والقيمي للإنسان، وبما أن السياسة تمثل نزعة الإنسان للخوض في الشأن العام وامتلاك أسباب القوة والتأثير، فإن التقارب كبير في الذات الإنسانية بين الفضاءات التي يتحرك فيها الدين وتلك التي تتحرك فيها السياسة، والتمازج يصل حداً يصعب معه الفصل بينهما، بما أن كلاً من الدين والدولة يتحركان ضمن الفضاء العام، وبما أن الإنسان في داخله نزوع روحي ومادي في الآن ذاته.
وهنا يبدو الفصل بين الدين والدولة مجرد فكرة ساذجة بعيدة التحقق، حيث لم تخل دولة من دين، ولا ظل دين بمفرده دون مأسسته في دولة، عدا عن أن الفصل بين المجالين ليس مطلوباً، قدر ما يدور المطلوب حول تقنين العلاقة بينهما، بالشكل الذي يمنع السياسي من توظيف الديني لصالحه، ويمنع الديني من الاستقواء بالسياسي لفرض دينه، وهذا لن يكون إلا ببلوغ الجمهور مرحلة من الوعي يعرف من خلالها حدود العلاقة النافعة بين الدين والدولة، وتلك الضارة التي يتحول بموجبها الدين إلى وسيلة قمع في يد السلطة الحاكمة، وذلك بتوظيف الدين لتحقيق أهداف لا علاقة لها بروح الدين وجوهره، رغم صعوبة ضبط تلك الحدود، في كثير من الأحيان.
ومع ذلك، يرى البعض أن صيغة «فصل الدين عن الدولة» يمكن أن تتناسب مع المسيحية التي لم تأت بتشريعات وقوانين إجمالاً، على اعتبار قول السيد المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» وذلك لأن المسيح بُعث في إطار دولة رومانية حاضرة، وقوانين موجودة، ولأنه قال: «ما جئت لأنقض الناموس، بل لأكمله» مع وجود شريعة التوراة التي يعد المسيح امتداداً لأنبيائها، حيث جاءت رسالته في مجملها تبشيرية، لا تشريعية.
ومع أن طبيعة المسيحية تتمثل في التركيز على الجانب الدعوي التبشيري، لا السياسي التشريعي، فإنه لم تعانِ ديانة ما عانته المسيحية من تسييس وتوظيف لا أخلاقي باسم المسيح، حيث وُظّفت لخدمة الأطماع الاستعمارية الأوروبية في آسيا وأفريقيا والعالم الجديد، وكان المبشرون المسيحيون والإرساليات المختلفة إلى بلاد الشرق وأفريقيا تمثل طلائع الاستعمار الأوروبي، تماماً، كما كان البروتستانتيون الأوروبيون في مهمة «رسالية مسيحية» وهم يبيدون الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، وكذا كان نظراؤهم الكاثوليك يفعلون في أمريكا اللاتينية التي تمت سرقة ذهبها وذهب أفريقيا بحجة بناء كنائس للمسيح، على أساس مبدأ: «الرب مقابل الذهب» وذلك بأن يعطي المستعمرُ «الرب/God» للشعوب المستعمرة، مقابل «الذهب/Gold» ليأتي جورج بوش الابن ـ أخيراً ـ في مهمة «رسالية تبشيرية» عام 2003، يخوض بها «حربه الصليبية» ضد العراق.
وإذا كان التوظيف السلبي للدين قد حفز على التنظير لفصل الدين عن الدولة، فإن جانباً من هذا التنظير كان مجرد شعارات، الغرض منها استمرار احتكار السلطة للخطاب الديني، دون المعارضة، ذلك أننا رأينا أنظمة تتحدث عن العلمانية وفصل الدين عن الدولة، ولكنها في الوقت نفسه توظف الدين لصالحها عبر عدد من المؤسسات الدينية التابعة للدولة.
نخلص ـ إذن ـ إلى صعوبة الفصل بين الدين والدولة، ذلك أنهما مرتبطان بالجبلة الغريزية والحشوة البشرية في الإنسان، بما أنه متعلق بالفضاء العام الذي هو مناط عمل الدين والدولة، وكل ما يمكن الاشتغال عليه هو العمل على أن تصب العلاقة بين الدين والدولة في صالح المجتمع، وتسعى لحفظ الأمن والنظام العام، ودعم وسائل التنمية، ورفع مستوى الشعب اقتصادياً وثقافياً وعلمياً، وهذا يعني استلهام التجارب الروحية للدين، وتفجير الطاقات الكامنة بواسطة تلك القوة الروحية الهائلة، لأن الدين يمكن أن يفهم على اعتبار أنه «حزام ناسف» يزرع في أحد دور العبادة لقتل مئات المصلين، ويمكن أن يفهم على اعتبار أنه «أفيون الشعوب» الذي يخدر به الظالمون المظلومين، بما سيلقونه من جنة في الآخرة مقابل الجحيم الدنيوي الذي صنعه لهم أولئك الظالمون، كما يمكن أن يفهم الدين على أساس أنه عمل مثمر، لبناء مدرسة وجامعة ومستشفى ومحطات طاقة ومياه، وشق طريق، وإطعام جائع، وكسوة عار، وإرشاد حائر، والوقوف إلى جانب مظلوم، وردع ظالم، ومقاومة محتل، ودفاع عن حق، وغيرها من الآليات والوسائل التي يمكن أن تؤدي لتحقيق الأهداف النبيلة للدين والدولة في الآن ذاته.