خلال حرب التحرير الفرنسية ضد النازية كانت الدعاية النازية تقول عن المقاومة الفرنسية إنها «تخريب» وتسمي «مقاتلي الحرية» الفرنسيين ضد الاحتلال النازي «مخربين» رغم بشاعة النازية ومشروعية «المقاومة الفرنسية». وفي المقابل كان الاحتلال الفرنسي يصم جيش التحرير الوطني الجزائري بالإرهاب، ويصف المجاهدين الجزائريين بـ«الإرهابيين».
ويمكن ذكر أمثلة كثيرة، فالمقاومة الفيتنامية «إرهاب» في نظر الأمريكيين» ورجال ثورة أكتوبر في جنوب اليمن «إرهابيون ومخربون» في عيون قوات الاحتلال البريطاني، وكذا الشيخ المجاهد عمر المختار لدى المحتل الإيطالي، وحسب هذه النظرة، تعد النازية الألمانية والاحتلال الفرنسي والبريطاني والأمريكي والإيطالي قوى تحرر وديمقراطية.
وخلال العقود الماضية – وتحديداً بعد أحداث سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة – نال العالمان العربي والإسلامي من الإرهاب العسكري والفكري والإعلامي إرهابا يفوق الوصف، ولكن لا يتم تسليط الضوء عليه، في أكثر الأحيان، حيث إنه – وبالإضافة إلى «الإرهاب العسكري» الذي دمر عدداً من البلدان العربية والإسلامية بذريعة «الحرب على الإرهاب» – هناك الإرهاب الفكري والإعلامي الممنهج، والمتمثل في كم هائل من الضخ الإعلامي والأكاديمي والسياسي الذي يهدف لتجريم كل فعل أو قول أو تصرف يأتي في سياق حق الشعوب في مقاومة المحتل.
وبطبيعة الحال، فإنه لا ينتظر من قوة احتلال أن تسمي المقاومين «حمائم سلام» أو تطلق عليهم «ناشطين بيئيين» على سبيل المثال، لكن الدعاية التي سادت خلال العقود الماضية كانت تتخطى ما هو طبيعي ومعروف في فترات الحروب من اتهام واتهام مضاد، إلى نوع من العمل الممنهج الذي توضع له استراتيجيات، وترصد له الأموال، وتجند له الأجهزة والدوائر المختلفة من الاستخبارات إلى المؤسسات البحثية والأكاديمية، إلى وسائل الإعلام، والدوائر الدبلوماسية والسياسية المختلفة.
الأمر – إذن – أبعد من مجرد تبادل اتهامات، بل إنه يهدف إلى تفريغ المصطلحات من مفاهيمها الدلالية، ومن ثم إعادة تعبئة هذه المصطلحات بمفاهيم جديدة غير منطقية، بالاستناد إلى أن عامل الزمن كفيل بـ«تطبيع» المفاهيم الجديدة، وتسويقها لدى الجمهور، بالشكل الذي يجعل المقاومة جريمة وإرهاباً والاحتلال حرية وديمقراطية.
وقد ساعدت الأعمال الإرهابية التي مارستها جماعات مسلحة باسم الإسلام، ساعدت في إسناد الدعاية الموجهة بدلائل ووقائع على الأرض، كما رأينا في عدد من العمليات التي نفذتها جماعات إسلامية – سنية وشيعية – دون إغفال تدخل أجهزة الاستخبارات الدولية والإقليمية في تهيئة الظروف لمثل هذه الأعمال لأغراض معروفة.
وقد نجح هذا الضخ المتواصل ـ ولو بشكل نسبي ـ في تشويه سمعة المقاومة كمصطلح ينتمي للحقول الوطنية، وكذا مصطلح «الجهاد» كمصطلح ينتمي للحقل الديني، مع ملاحظة أنه نال مصطلح «الجهاد» من التشويه أكثر بكثير مما نال مصطلح «المقاومة» الأمر الذي جعل بعض الإسلاميين يصرفون الحديث عن الجهاد إلى الحديث عن المقاومة، على اعتبار ارتباط «الفعل» بالدفاع عن الوطن، وليس بالدفاع عن الدين، في محاولة لتجنب الاستهداف والاشتباك مع استراتيجيات محاربة الإرهاب الذي تربطه البروباغندا الدولية – غالباً – بالإسلام.
ومع ذلك فإنه حتى «المقاومة الوطنية» التي حاولت بعض الأدبيات الإسلامية التركيز على أبعادها، لتفادي وصمة «الإرهاب» التي نالت «الجهاد الديني» حتى تلك المقاومة لم تسلم من تلك الوصمة التي سعت «غرف عمليات الحرب على الإرهاب» لتعميمها على كل حركة تحرر وطني في العالمين العربي والإسلامي.
وبطبيعة الحال، فإن الهدف الرئيسي لم يكن محاربة الإرهاب، لأن تلك الحرب المزعومة على الإرهاب يتم تسييسها لأهداف مختلفة لا علاقة لها بالأهداف المعلنة، بل إنه يتم – أحياناً ـ نوع من التعامل بين الدولة التي «تحارب الإرهاب» و«المنظمات الإرهابية» لتحقيق أهداف مغايرة، ما يؤكد وجود أهداف أبعد من تلك الأهداف المعلنة ضمن الاستراتيجيات الدولية في الحرب على الإرهاب.
وليس من قبيل كشف الأسرار أن الهدف الرئيسي لما يسمى «الحرب على الإرهاب» يتعدى إلى محاولة «قتل روح المقاومة» في نفوس الشعوب المقهورة، وتشويه أي فعل يرفض وسائل الهيمنة ونهب ثروات شعوب المنطقة والتحكم في مصائرها سياسياً واقتصاديا، وذلك بضخ كم هائل من المواد المقروءة والمسموعة التي تضع صاحب الحق في التحرر من الهيمنة والاحتلال في الزاوية الحرجة، وتدفعه إلى سلوك اعتذاري تبريري ينسيه أنه أصلاً ضحية: أرضه مغتصبة، وشعبه في القبور أو السجون أو المهاجر البعيدة، أو يرزح تحت نير الاحتلال، ومن ثم ينسى قضيته، ويفكر بفداحة الثمن الذي تكلفه إياه تلك القضية، لكي يرضى بتسويات أو تصفيات للقضية، لصالح المحتل، بعد أن يكون «الترهيب بتهمة الإرهاب» قد قضى على روح المقاومة لدى الشعب، حسبما خطط أولئك الذين يدمغون مقاومة الشعب الواقع تحت الاحتلال بالإرهاب، ويعطون حق الدفاع عن النفس للغزاة المحتلين.
وقد أثمرت سياسة قذف تهمة الإرهاب في وجه أصحاب الحق والأرض، أثمرت تشويه سمعة المقاومة إلى حدٍ ما، وظهرت كتابات ـ في سياقاتنا العربية – تدعو إلى إعادة النظر في «المقاومة المسلحة» وتصويرها على أنها ضرب من العبث الذي لن يؤدي إلى تحرير الوطن، وتحولت ـ ولو نسبياً ـ النظرة للمقاومة لدى بعض نخبنا إلى كون حركاتها منظمات إرهابية، لأنها ترفع شعارات إسلامية، في تجاوب مع النظرة الدولية التي تنظر لكل أو لمعظم ما هو حراك إسلامي، على أساس أنه داخل ضمن نطاق التنظيمات والتوصيفات الإرهابية.
ومع ذلك، وعلى الرغم من كثرة الضخ الإعلامي لتشويه المقاومة، إلا أن الحرب الحالية على غزة قد أعادت الاعتبار للمفاهيم والمصطلحات التي حاولت إسرائيل وداعموها خلطها والتشويش عليها. كما أن التستر على جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، والدفاع عن تلك الجرائم في المحافل الدولية لن يجدي شيئاً في تغيير المفاهيم، بل سيجعل العرب والفلسطينيين يعيدون الاعتبار للمقاومة المسلحة، لأن الطرق التي تتعامل بها إسرائيل وداعموها إزاء الصراع في الشرق الأوسط تكرس لدى الفلسطينيين عدمية المفاوضات، وليس عدمية المقاومة المسلحة.
كما أن الاستمرار في استهداف حركات التحرر الوطنية والإسلامية بتهم الإرهاب لن يكسر روح المقاومة، قدر ما يزيد من صناعة أجيال أكثر التفافاً حول فكرة المقاومة، باعتبارها الطريق الوحيد لتحرير الأرض، وسوف يُنظر لقرارات تصنيف المدافعين عن أوطانهم على أنهم إرهابيون، سوف يُنظر لتلك القرارات على أنها قرارات انتقائية وغير عادلة، وهو ما يقدح في مصداقية تهم الإرهاب الملقاة هنا وهناك، دون أن يجرح عدالة المقاومة، أو يشرعن للاحتلال.