قبل أيام قيل لي أن هناك تحضيرات لعقد جولة مفاوضات في مسقط حول "ملف المختطفين والمخفيين قسريا"، تجاهلت الأمر، ولم أسمح لنفسي حتى من التفكير بأن الحكومة قد تتورط مجددا مع الأمم المتحدة في تبييض سجل المليشيا وشرعنة جرائمها!.
ظننت أن الكل قد تعلم الدرس، وان الضمائر في يقظة لن تقبل تكرار الخطيئة، وقلت ربما أن المعنيين قد اطلعوا على وثيقة من أهم مواثيق الأمم المتحدة والتي تعرف ب "إعلان حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري"، وأنهم لن يقبلوا بتحويل ملف المختطفين والمخفيين القانوني والإنساني، إلى ورقة سياسية استطاعت المليشيا الإرهابية من انتزاع مكاسب سياسية لا يمكن لإنسان عاقل ومسؤول أن يتورط في هكذا صفقات غير أخلاقية لا تقبل المساومة والتفاوض.
والسؤال هنا يعود مرة أخرى: هل يعلم الوفد الحكومي عن إعلان حماية الأشخاص" الذي اعتمدته الأمم المتحدة في عام ٢٠٠٧م كملحق خاص وإضافي للعهود والمواثيق والقوانين الدولية الخاصة بحقوق الإنسان؟!
هذه الوثيقة هي الوظيفة الأهم للأمم المتحدة، هكذا تلتزم في ديباجتها وتتعهد باستئصال جريمة إخفاء الأشخاص نهائيا، وتتعهد بدورها في حماية الأشخاص من جريمة الإخفاء القسري، وهذا ما نصت عليه المادة الأولى:
"1. يعتبر كل عمل من أعمال الاختفاء القسري جريمة ضد الكرامة الإنسانية ويدان بوصفه إنكارا لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة وانتهاكا خطيرا وصارخا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأعادت تأكيدها وطورتها الصكوك الدولية الصادرة في هذا الشأن.
2. إن عمل الاختفاء القسري يحرم الشخص الذي يتعرض له، من حماية القانون، وينزل به وبأسرته عذابا شديدا. وهو ينتهك قواعد القانون الدولي التي تكفل، ضمن جملة أمور، حق الشخص في الاعتراف به كشخص في نظر القانون، وحقه في الحرية والأمن، وحقه في عدم التعرض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. كما ينتهك الحق في الحياة أو يشكل تهديدا خطيرا له."
هذا التعريف الذي تضمنه الإعلان الأممي، يحمل مفردات بالغة التحدي والعزيمة والإصرار على حراسة كرامة الإنسان وحياته وحقوقه من جريمة بشعة كالإخفاء والتغييب!
ولم يتوقف الإعلان عن توصيف الجريمة فحسب، بل وضع الآليات والإجراءات والوسائل ومنح الدول منفردة ومجتمعة الضوء الأخضر لتنفيذ كل التدابير التي تمنع هكذا جريمة، حيث نصت المادة الثانية في الفقرة الثانية على:
"2. تعمل الدول على المستوي الوطني والإقليمي، وبالتعاون مع الأمم المتحدة في سبيل الإسهام بجميع الوسائل في منع واستئصال ظاهرة الاختفاء القسري.".
في اليوم العالمي للاختفاء القسري، أصدرت رابطة الأمهات بيان جاء فيه "وثقت رابطة أمهات المختطفين “128” حالة إخفاء قسري ما زالت إلى الآن مجهولة المصير".
وفي تقرير سابق أصدرته منظمة سام للحقوق والحريات بعنوان " الغيبة الطويلة" - الصادر في أغسطس 2021 - كشف عن 270 حالة تعرضوا للإخفاء القسري"!.
تلك جريمة لا تقبل المساومة أو التفاوض.
في مقابلتين واحدة على قناة المسيرة الحوثية وأخرى على قناة الميادين، اعترف عبد القادر المرتضى بأنهم لن يسمحوا بالتفاوض حول محمد قحطان إلا بمقابل".
هذه تصريحات بالصوت والصورة، وهذه وثائق وأدلة دامغة واعتراف صريح بارتكاب جريمة الإخفاء القسري، بل والأقبح منه والأشد قبحا المساومة الوقحة على تحقيق مكاسب مقابل السماح لأسرة قحطان بزيارته، والتباهي بارتكاب جريمة الإخفاء والتغييب القسري لأكثر من تسع سنوات؟!
ثم ماذا؟!
تستجيب الحكومة بدون أدنى مسؤولية للذهاب إلى جولات تفاوض عبثية أفقدت أصحاب الحق قوة حقهم وعدالة قضيتهم وحولتهم إلى مجرد أوراق ورهائن تلعب بهم قمار على طاولة المفاوضات!
هل قرأتم بقية مواد إعلان الأمم المتحدة حول جريمة الإخفاء؟!
لو قرأتم النصوص في المواد السابعة والسابعة عشر لكان الوفد الحكومي الآن في جولاته الأخيرة من تقديم المجرمين إلى المحاكم الدولية.
قال الزميل توفيق المنصوري أن المرتضى أشرف على تعذيبه، والمرتضى نفسه يتباهى جهارا نهارا بأنهم مستمرون في ارتكاب جريمة إخفاء محمد قحطان، والقانون الدولي ووثيقة الإعلان الأممي تنص على أن أوجب واجباتها استئصال جريمة الإخفاء والتغييب القسري، ومنحت الضوء الأخضر لكل دولة باعتقال ومحاكمة كل من يتورط في ارتكاب جريمة إخفاء قسري، وحذرت من استقباله أو منح اللجوء له أو القبول به بأي حال من الأحوال.
***
يقال إن أصعب الخسارات، هي خسارة تلك القضايا الرابحة التي يتسبب بها المحامي الفاشل، ومن واقع التجربة، فقد يخسر المحامي الماهر قضية ما حولها بعض الملابسات، لكن المحامي الذي يتسبب في خسارة القضايا الناجحة يعد شريكا في الجريمة ومتورطا فيها، قصد أم لم يقصد.
قبل نحو سبع سنوات وتحديدا عام ٢٠١٨م وقعت الأمم المتحدة على اتفاق واضح شديد الوضوح لا لبس فيه ولا غموض، لا يقبل التأويل ولا التفسير، ولا ينكره ولم ينكره أحد، نص هذا الاتفاق على " الإفراج عن كافة المختطفين والمخفيين قسريا والأسرى، من كافة السجون، وبمبدأ الكل مقابل الكل"!.
كنا حينها نحذر الحكومة والأمم المتحدة أن مجرد وضع ملف المختطفين والمخفيين قسريا على طاولة التفاوض السياسي، كجزرة في العصا لا يمكن وصف هذا السلوك إلا كشرعنة للجرائم الأبشع ضد الإنسانية، ومع ذلك فقد تم تجزئة هذا الاتفاق والتحايل عليه وتحول إلى قاع الاهتمامات الحكومية، وما أقسى أن تمارس سلطة ما خطيئة بحجم خطيئة الإهمال والتغافل عن أعظم وأثمن وأقدس تضحيات ونضالات أبناء شعبها في معركة وطنية مصيرية.
أوقفوا مهزلة وعبث التفاوض، وتوقفوا عن اللعب بنضالات أبطال شعبنا وطرحها على طاولات النقاش، وتصرفوا بمسؤولية، فمن يفرط في نضالات الشعب لن ينجو من المساءلة، والله المستعان.