كل حضور يأتي ويبرز، على حساب تغييب دور الآخرين، يبقى مجرد احتضار مزمن، وغيبوبة دائمة وموت بطيء.
وكل تواجد يكبر ويتضخم ويتطاول فوق نضالات الأبطال وجراحاتهم يظل في حكم العدم ومصيره الفناء والزوال.
وكل مسؤولية لا تقدر تضحيات الشهداء ولا تعلي من شأنهم ولا تثمن دور الجرحى ولا تعترف لهم بالفضل ميؤس منها ولا يعول عليها كثيرا.
وكما يقول بن عربي: "كل بقاء يكون بعد فناء لا يعول عليه وكل فناء لا يعطي بقاء لا يعول عليه"
لا قيمة لوظيفة ولا جدوى لسلطة ولا وجود لدولة ولا حقيقة لشرعية ومعنى لمسؤولية لولا تضحيات الشهداء واجتراحات الجرحى.
تتصاغر كل الألقاب، وتتقزم كل الصفات، وتحقر كل الوظائف وتضعف كل الرتب أمام صفة الشهيد أو الجريح.
الشهداء شواهدنا الحية على التضحيات وأدلتنا الحقيقة في الحياة، بهم نهتدي وخلفهم نمضي وعلى طريقتهم نسير.
أما الجرحى فهم عافية الوطن وبصمة النضال وعلامة التضحية وحراس المجد، جراحهم عطر البطولة ومسكها وألمهم صوت القضية ولسانها.
مهما ترفعت أوجاعهم وألآمهم عن البوح إلا أنها تبقى جراحاً فصيحة لا تخطئها الآذان المبصرة ولا تتجاهلها الضمائر المرهفة.
لا يحتاج الجريح الى شهادة سيرة وسلوك وطني ولا إلى وثيقة تؤكد صدق تضحيته والى مكبرات صوت لسماع وجعه.
لا يحتاج الجرحى إلى معارض صور لإثبات بطولتهم واستعراض أطرافهم المبتورة ولا إلى خيام اعتصام للمطالبة بحقوقهم.
لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يتحول هؤلاء الأبطال إلى مادة لاستدرار الشفقة ولا إلى حالة تستدعي التعاطف ولا يجب أن تتحول جراحاتهم العفيفة إلى وسيلة لاستجداء الجيف المعفنة في الحكم.
لا شيء يجرح الجرحى مثل التجاهل وقلة الاهتمام وكثرة الإهمال واستمرار الشعور بالخيبة والخذلان.
اعطوا الجريح حقه قبل أن يجف دمه ويتوقف نزفه وقبل أن يصمت وجعه وقبل حتى أن يدرك شعوركم بمدى حاجته لكم فتجرحونه مرة أخرى.
الأصل أن ينال الجريح حقه دون أن يطالب به وأن يصغي الجميع لجراحه قبل أن يبوح بها وحتى قبل أن يتوجع منها وهذا ليس بكثير عليه بل يجب أن يتداعى الوطن كله بالسهر والحمى حين يشتكي الجرحى من جراحاتهم.
حتى تكريمهم لا يصح أن يكون نظير ما قدموا ولا مقابل تضحياتهم ذلك أن ما يقدمونه أغلى غاية الجود ولا يقدر بثمن ولا يمكن لأي تكريم أن يكافأهم عليه.
حقوق الجرحى لا تسقط بالتقادم ولا تسقط بالتأخر ولا يجب أن تسقط بأي حال من الأحوال وقضيتهم
غير قابلة للمساومة ولا تخضع للتسويات ولا تمتلك ترف الوقت لخوض النقاشات والزيارات وتشكيل اللجان.
لقد فقد هؤلاء الأبطال أطرافهم وهم يحمون أطراف البلاد وسكبوا دماءهم ليزهر الوطن وخسروا حبيباتهم وهم يحرسون بها أمجاد اليمنيين.
الجريح الذي لم يتردد لحظة واحدة في تقديم روحه في سبيل دينه ووطنه وفدى البلاد ببعضه بكل سخاء وبدون تلكؤ كيف يقابل كل هذا الجود والإقدام منه بكل هذا الشح والإمساك والتباطؤ والتثاقل والتراخي في إسعافه.
لا يجب أن يتوقف وفاؤنا لهم عند حدود دائرة الرعاية الاجتماعية ولا أن ينتهي الاهتمام بهم عند كشوفات الراتب وقوائم الرتب ومذكرات المنح العلاجية.
يجب أن يكون للجرحى والشهداء تمثيل في أعلى هرم في السلطة كأن تخصص لهم حقيبة وزارية تحمل وزارة شؤون الأبطال مثلاً ويعين وزيرها منهم ودون ذلك لا معنى لتشكيل أي هيئة أو لجان أو مؤسسات لرعايتهم.
الجرحى لم يغادروا الميدان بعد ولم يخرجوا عن الخدمة ولم يبرحوا مواقعهم ومتارسهم حتى الآن.
وحتى لو خرج بعضهم عن الخدمة نتيجة إصابتهم البالغة لا يعني إخراجهم عن دائرة الخدمات والاهتمام والرعاية.
إنهم يخوضون اليوم حرباً هي الأشد مضاضة والأصعب مواجهة عدوهم فيها هذه المرة ليست المليشيات الحوثية فحسب بل وعدوهم فيها التجاهل وعدم الاهتمام..
وكم تبدو المفارقة مريرة أن يهزم هؤلاء الجرحى الموت في حين تهزمهم الحياة فليس من الجراح والإصابات وحدها يتألم الأبطال فالتجاهل والنكران يفعلان بهم ذلك وأكثر.