في الثامن عشر من شهر سبتمبر 2014، اجترحت محافظة مأرب واحدة من أعظم المبادرات الوطنية على مشارف الانهيار الكامل للنظام الانتقالي الذي أنتجتها ثورة الحادي عشر من فبراير/ شباط 2011.
لقد بادر أبناء محافظة مأرب وقبائلها وأحزابها وفعالياتها بإرادة وطنية واحدة، إلى تأسيس ما عرف بمطارح مأرب، بدءًا بمطارح نخلا والسحيل، وصولاً إلى صرواح والوشحا ونجد المجمعة ونجد مرقد، قبل أيام من سقوط صنعاء، في وقت كانت فيه ميليشيا الحوثي تتقدم صوب صنعاء مسنودة بالجيش والأمن والقرار السيادي، في لحظة فارقة من تاريخ الوطن رأى فيها اليمنيون رأي العين الخيانة تنال من جمهوريتهم وتاريخهم وأمجادهم.
كان مخطط الانقلابيين مدعومًا من الداخل والخارج يطمح إلى إسقاط مأرب وتسليمها إلى الجماعة الطائفية، حتى قبل إسقاط صنعاء، بل في العام 2011، وكان ذلك في سياق المواجهة الحاسمة مع حركة الاحتجاج الجماهيرية الواسعة التي اندلعت في 11 فبراير 2011، والتمكين المتسارع للحوثيين بصفتهم جماعة شيعية متطرفة تنزع إلى الاستحواذ على السلطة ولديها قابلية لإعادة تفكيك الوطن والدخول في أتون مواجهة مسلحة مع اليمنيين، بخلفية طائفية أدرك داعمو الجماعة الخارجيون والداخليون مدى أهميتها لتسوية المشهد الوطني وفق أولويات الغرب المسكون بمواجهة المكون الغالب في أمتنا وهزيمته.
ذلك كان أحد أهداف الحرب التي خاضها الحوثيون في الجوف وتصدى لها أبناء الجوف بكل بسالة وشرف بإسناد من أبناء مأرب، حيث اختلطت في تلك المعركة المكلفة والشرسة، الأهداف الاقتصادية بالأهداف الأيديولوجية، في محاولة النيل من أبناء محافظتي الجوف ومأرب.
لذلك لم يكن مستغربًا أن يبادر أبناء مأرب إلى تأسيس مطارحهم، محققين بذلك أولى بوادر الوحدة القبلية والوطنية، ويعزى ذلك إلى عمق وعيهم وإدراكهم لحجم المخاطر، التي لا يمكن درؤها إلا بخوض معركة صفرية مع العدو، كانوا مستعدين لتقبل كلفتها وتضحياتها، إذا كان الثمن هو الحيلولة دون تسليم الجمهورية إلى الجماعة الطائفية المدعومة من إيران.
هذا القرار الشجاع والبطولي والحكيم والنبيل، اُتخذ في مأرب في الوقت الذي كانت فيه الدولة ورجالها في حالة شلل وارتباك وتيه وانقسام واحتقان. إذ كان قسم من السلطة يمتلك التصور الكامل عن مخطط إسقاط النظام الانتقالي وحدود المهمة المسنودة إلى جماعة الحوثي، فيما كان القسم الآخر يعاني التشويش والشلل التام تحت وطأة الرسائل النارية التي ينقلها تباعًا المبعوث الأممي مهددًا بإدراج الجميع تحت طائلة العقوبات الدولية إذا اعترضوا مخطط تسليم صنعاء.
لم يكن الكلام الصادر عن المبعوث الأممي جمال بنعمر آنذاك بهذا القدر من المباشرة على كل حال، بل كان يُغلف في إطار مبادرة لإنهاء الحرب المفتعلة في صعدة وعمران وشمال صنعاء، وإحلال السلام، خرجت فيما بعد في شكل وثيقة "السلم والشراكة"، التي لم تكن أكثر من وثيقة للتسليم والاستسلام.
بعد سنوات من الصمود الذي أفشل المخطط طويل الأمد لإسقاط مأرب المدعوم من أطراف داخلية وخارجية، والذي تحول منذ بداية العام 2021 إلى هدف إيراني بامتياز، يحق لمأرب بأهلها وسكانها من كل أنحاء اليمن أن يفخروا بما أنجزته المطارح العظيمة، وأن يتكئوا على المداميك السميكة من التضحيات والبطولات والصمود التي أرستها تلك المطارح، عليهم أن يتذكروا جيداً تلك الصفوف الطويلة من السيارات والوجوه النيرة التي كانت تحمل السلاح واللحى البيضاء التي تقدمت المطارح بكل إباء وكبرياء وشجاعة وفداء.
لم تكن المطارح فعلاً قبليًا محضًا ولا "نكف"، فقوتها تتعدى هذه الهوية وهذا المعنى اللحظي التقليدي، لتعكس نضجًا سياسيًا جديرًا بالاحترام عبرت عنه الزعامات القبلية والشخصيات السياسية والحزبية في محافظة مأرب، مدركة أن ما أقدمت عليه هي رسالة وطنية بامتياز ومحطة نضالية تحمل في عمقها الشعور بالهوية الجمهورية غير القابلة للتصرف.
تلك الهبة الوطنية الشاملة، هيأت مأرب قبل غيرها لتكون مرجلاً للبطولة والهوية اليمنية، احتشد فيه الملايين من اليمنيين الذين اختاروا مأرب محطة للمواجهة الشاملة مع الإماميين الجدد، ومع الخونة والمتخاذلين والضالعين في وزر التوطئة لعودة العهد اللعين الذي دفنه شعبنا في السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1962م.