كانت حالة السوريين، ومعها حالة كثير من المتعاطفين العرب يميلون إلى التشكيك بعزم أبي محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام بتنفيذ تهديداته التي طالما أطلقها بشن عملية عسكرية جديدة، وذاك ما بين مكذب له، مستمداً تكذيبه من إحباطاته السابقة البعيدة المدى من القادة العرب الذين يُصرحون فيفاجؤون شعوبهم بمزيد من الانكسارات، أو مستمداً إحباطاته من الواقع السوري الذي انكفأ إلى جيب في الشمال المحرر بعد أن كان على أبواب دمشق، وقليل من الحلقة الضيقة المصدقة له، لما تعرفه بشكل دقيق وقريب.
في مقابل ذلك كان أبو محمد الجولاني يرتب أوراقه، ويعظمها، ويستغل كل ثغرة داخلية وخارجية، لاسيما مع الانكسارات التي تعرض لها محور الشر المعادي للثورة السورية، إن كان في موسكو أو في طهران ولبنان.
كانت المؤشرات العسكرية لدى الجولاني أن حلفاء العصابة في أوهن ظروفه، فروسيا لم يعد لها سوى 12 طائرة حربية بعد أن كان لديها قبل الحرب الأوكرانية 35 طائرة حربية في قاعدة حميميم، فضلاً عن شُح في قنابل الطيران لانشغالها بالحرب الأوكرانية، أو بقذائف المدفعية التي تجلبها من كوريا الشمالية، وقد ظهر ذلك في المعركة الأخيرة بوضوح.
بالمقابل كان الحليف التركي متخوف من عواقب ونتائج المعركة بحيث يمكن أن تطيح بالمنجزات الحالية التي استقر عليها وضع الفصائل ووضع اللاجئين، مما سيعني أي انكسار وتراجع موجة تشرد وتهجير جديدة صوب الأراضي التركية، وهو ما لا تقوى تركيا على تحمله في ظل تنامي العنصرية لدى المعادين لحزب العدالة والتنمية الحاكم. كان الجولاني أو الشرع حالياً أشبه من يسير على حدّ السيف، أو على خيط مشدود طرفاه معركة أو لا معركة، لكنه ظل يُجمع قواه العسكرية الذاتية ومعه حلفاؤه من أحرار الشام بزعامة عامر الشيخ، وصقور الشام بزعامة أبو عيسى الصقور، وجيش العزة بزعامة الرائد جميل الصالح، وجيش الأحرار بزعامة أبي صالح الطحان، ومعه كذلك الجبهة الشامية بزعامة أبي العز سراقب، أو عزام الغريب الذي عين أخيراً محاظفاً لحلب وعلى الرغم من وجودها في المناطق الخاضعة للسيطرة التركية، فقد دفعت بأسلحتها الثقيلة تحت تصرف الجولاني.
حرصت القيادة التركية على توجيه الفصائل الحليفة لها في مناطق درع الفرات بألاّ تشارك في العملية، وربما لذلك حسابات سياسية مع روسيا، مع مخاوف من فشل العملية، مما يعني أن الجميع سيدفع الثمن، ويبدو أن كل القوى الإقليمية والدولية لم تكن متوقعة ما حصل، حيث كان الأسد في عزّه يوم تقرّبت منه كثير من الدول العربية والغربية من أجل التطبيع، ولذلك عبرت كل القوى الدولية من أمريكية وغربية وروسية وإسرائيلية عن دهشتها لسرعة العملية ولسرعة انهيار منظومة تعود إلى 61 عاماً.
ظلّ الجولاني يرسل الإشارات المكثفة بأن عملية كبيرة ستقع ضد النظام السوري، ثم يتوقف، ليعيد ويعلن، ويستنفر قواته، ثم يفكّ الاستنفار، حتى ملّ وسئم أكثر المتفائلين بوقوع العملية، فضلاً عن حالة الملل التي أصابت معسكر العصابة وحلفائها. كان الجميع يتوقع أن تكون العملية من محور سراقب شرقي إدلب، وكذلك من محور كفر حلب باتجاه مدينة حلب، وذلك بعد أن نشر الجولاني أسلحته الثقيلة في المحورين، ولكن قبل ليلة واحدة من موعد الهجوم انقلب كل شيء، وغيّر الجولاني الخطة.
جمع الجولاني ليلة الهجوم بضع من قادته العسكريين الموثوقين جداً لديه، والذين لا يتعدّى عددهم أصابع اليد الواحدة، وأقسموا على القرآن ألاّ يبوحوا بالسر، وقد كان، حيث نقلوا الأسلحة الثقيلة ليلاً باتجاه محور جديد لا يتوقعه أحد وهو محور غربي حلب من منطقة قبتان الجبل والشيخ عقيل، الذي كان قد حفر تنظيم أحرار الشام نفقاً بطول 700 متر، ولكن لم يتم إكماله لهدفه.
بدأ الهجوم ليلة السابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين ثاني، مع تفجير النفق بحوالي طن من المتفجرات وهو ما أربك قوات العصابة الأسدية وحلفائها، وفاجأ حتى الفصائل المتحالفة مع الجولاني، وتزامن هذا مع عملية نوعية هزّت مدينة حلب، بل وهزّت العاصمة دمشق، وفي الحلقة المقبلة سنتحدث عن هذه العملية وظروفها، وتطورات هجوم قبتان الجبل والشيخ عقيل.