خير الله خير الله
قبل ثلاث سنوات أنسحب الجيش السوري من لبنان. انسحب من دون ان ينسحب. إلى الآن لا تزال القيادة السورية عاجزة عن أستيعاب كيف يمكن أن يضيع توظيف ما يزيد على ثلاثين عاما من الجهود المستمرة الهادفة إلى أخضاع لبنان في لحظة واحدة. كيف يمكن أن ينزل اللبنانيون، على رأسهم أهل السنة الذين أغتيل زعيمهم رفيق الحريري، الذي هو زعيم لبناني قبل أي شيء آخر، إلى الشارع تحت شعارات ولافتات تدعو إلى الخروج السوري من لبنان. ولذلك يبدو واضحا، ولأسباب تتعلق بالظروف التي رافقت الخروج السوري، ان لا هدف لدى القيادة السورية سوى العودة إلى لبنان. ولذلك أيضا، يقول وزير الخارجية السوري السيد وليد المعلّم في اللقاءات الخاصة التي تعقد بين وزراء الخارجية العرب على هامش أجتماعاتهم: أعيدوا ألينا لبنان ويصبح من السهل أنتخاب رئيس للجمهورية وعودة الحياة الطبيعية إلى البلد.
من أجل العودة إلى لبنان، يبدو كل شيء مقبولا ومبررا سوريا بما في ذلك التوصل إلى سلام مع أسرائيل. ولكن يبقى السؤال الأساسي هل في أستطاعة النظام السوري فك أرتباطه الأستراتيجي بإيران؟
تكمن أهمية أنسحاب الجيش السوري من لبنان في أمرين. الأمر ألأوّل أن أهل السنة في لبنان هم الذين نزلوا إلى الشارع مع أبناء الطوائف الأخرى بعد أغتيال الرئيس رفيق الحريري في الرابع عشر من فبراير- شباط 2005 وفرضوا خروج القوات السورية من لبنان. الأمر الآخر أن النظام السوري لم يجد ما يسد به الفراغ سوى الأداة الإيرانية المسمّاة "حزب الله". ولذلك، صار نفوذ دمشق في لبنان، منذ اللحظة التي خرجت بها القوات السورية من البلد، مرتبطا بالحزب الذي ليس سوى أمتداداً للنفوذ الإيراني. وفي حال كان على المرء أن يكون أكثر وضوحا وأن يسمي الأشياء بأسمائها، فأن "حزب الله" ليس سوى لواء في "الحرس الثوري الإيراني" بعناصر لبنانية. وفي حال كان على المرء أن يزيد من الوضوح، في الأمكان القول أن ما حصل نتيجة الخروج العسكري السوري من لبنان أقرب إلى تغيير في المعطيات الإستراتيجية على الصعيد الأقليمي أكثر من ايّ شيء آخر.
لا مفر من التساؤل هل في أستطاعة النظام السوري فك عقدته اللبنانية من دون فك عقدته الإيرانية؟ أن ايران اقوى بكثير مما يعتقد في لبنان. أن النفوذ السوري في لبنان صار تحت رحمة الوجود الإيراني الذي يجسّده "حزب الله". وهذا يعني بكلام أوضح أنه ليس في أستطاعة النظام السوري سلوك سياسة مستقلة عن إيران في لبنان في حال لم يتخذ قرارا واضحا كل الوضوح يتمثل في التخلي عن عقدة لبنان ككل وعقدة العودة إلى لبنان تحديدا. هل في إستطاعته أن يفعل ذلك، أم يعتقد أن مصيره مرتبط بممدى قدرته على ممارسة نفوذه في لبنان، أي بمدى النفوذ الذي يوفّره له "حزب الله" ومن خلفه إيران في الوطن الصغير؟
يفترض في النظام السوري أدراك انه خرج من لبنان عسكريا وصار تحت رحمة "حزب الله" لأنه راهن على "الجزر الأمنية" في لبنان. أنه يدفع بكل بساطة ثمن هذا الرهان. أعتقد النظام السوري أن البضاعة الوحيدة التي يستطيع تصديرها وتسويقها لدى المجتمع الدولي هي الأمن. لذلك، أخترع نظرية الجزر الأمنية في لبنان. ساعد "حزب الله" في أقامة جزره الأمنية. وساعد في أبقاء المخيمات الفلسطينية معسكرات خارج السيادة اللبنانية وابقى على قواعد عسكرية لمنظمات فلسطينية تابعة له في أماكن مختلفة من لبنان لأسباب واهية. فعل كل ذلك من أجل القول للمجتمع الدولي أن وجوده العسكري في لبنان ضرورة وأن لا أمن في لبنان من دون الوجود العسكري السوري فيه... إلى ما لا نهاية.
تلك كانت استراتيجية النظام السوري في لبنان. فشلت تلك الإستراتيجية فشلا ذريعا. لو لم تفشل لكان الجيش السوري لا يزال في لبنان برضا اللبنانيين ولكن بعد التفاهم على أن ثمة تجاوزات لا يمكن التغاضي عنها. هل في أستطاعة النظام السوري التعلّم من أخطائه. هل في إستطاعته أن يستوعب، بعد ثلاث سنوات من خروجه من لبنان أن ليس في الأمكان تغطية الجريمة بجريمة أكبر منها وأنه آن الأوان للتعاطي مع اللبنانيين الطبيعيين الذي لا يكنّون أي عداء لسوريا بدل الأعتماد على لبنانيين مرتبطين بقوى خارجية، على رأسها إيران، تمتلك أجندة خاصة بها لا علاقة لها لا بسوريا ولا بلبنان؟
بعد ثلاث سنوات على الأنسحاب السوري من لبنان. ليس في الأمكان سوى الأعتراف بأن النفوذ السوري لا يزال قويا. لكن هذا النفوذ قوي بفضل "حزب الله" وأدواته المستأجرة على رأسها من كان إلى قبل فترة قصيرة الرجل الأقوى لدى المسيحيين في لبنان، أي النائب العماد ميشال عون. تبدّلت المعادلة. صار السوري تحت رحمة "حزب الله" بعدما كان "حزب الله" تحت رحمة السوري الذي أدّب الحزب بوحشية بمجرد عودته إلى بيروت عسكريا في العام 1987 فذبح نحو عشرين من عناصره في "ثكنة فتح الله" لتأكيد أنه صار حاكم لبنان الذي لا منازع له.
بعد ثلاث سنوات على الأنسحاب العسكري السوري من الأراضي اللبنانية، هناك صفحة طويت. هل يستطيع النظام في دمشق الأعتراف بذلك والتعاطي مع الوضع الجديد، أم يبقى أسير أوهامه؟ لقد أنتقم ما يكفي من لبنان. الحاجة أكثر من أي وقت إلى تجاوز عقلية الأنتقام. الحاجة إلى أقتناع بأن "الجزر الأمنية" ليست ضمانة للنفوذ السوري في لبنان. أنها ألغام لا أكثر ولا أقل. ألغام لا تحمي سوريا والسوريين ولا لبنان اللبنانيين ولا تفجّر المحكمة الدولية التي صارت قدرا أكثر من أي شيء آخر...