علي صالح القادري
الوطن غالٍ وحبّه مقدّس في نفوس المخلصين من أبنائه وفي الأوطان تغنَّى وأفاض الشعراء إلاَّ أنَّ ما كتبوه وما تغنّوا به من جميل القول يتضاءل أمام فِعل الشهيد الذي عكس حبّه للوطن بالفعل لا القول فهان عنده كل شيء سواه: أمام تمثُّله جلال الوطن وعظمته.. لقد عَظُم في نظر الشهيد حبّ الوطن وصَغُر في عينيه كل شيء، الحياة والأبناء والأهل حتى نفسه هانت عليه فبذلها رخيصةً في سبيل الوطن وخاض المخاطر والأهوال غير متهيّب ولا متردّد، يدفعه إلى ذلك حبّ الوطن وحرصه على أن يظل شامخاً حراً موحداً وتظل رايته عالية خفَّاقةً...
الشهيد الذي بذل روحه كي يحيا أبناء الوطن آمنين مطمئنين، و"الجود بالنفس أسمى غاية الجود" إنَّه جود ما بعده جود، جود ينبغي أن يقابَل بالامتنان والعرفان لا أن يقابَل بالجحود والنكران، جحود فضله ونكران دوره.. جود يستدعي الوقوف المناصِر له ولو حتَّى بالكلمة المُشيدة ببذله وتضحيته ونُبل الهدف الذي ضحَّى بنفسه من أجله، ولأنّ الشهيد أكرم من سواه ممَّن يتسابق الناس على إضفاء نعوت السخاء وصفات الكرم عليهم فإنه أكرم من أن يستجدي اطراءً وثناءً إزاء ما قدم لوطنه وإخوانه من أبناء الوطن ما لم يستشعر أبناء الوطن أنفسهم واجبهم تجاهه... أبناء الوطن الذين لطالما نام في العراء وفي قمم الجبال، في زمهرير الشتاء وقيض الصيف ليالي وأياماً إلى أن قضى نحبه واختاره الله إلى جواره في حين أبناء الوطن الباقين ينامون في بيوتهم بين أهليهم وذويهم آمنين مطمئنين ظاناً في قرارة نفسه وهو يبذلها رخيصةً أن أبناء الوطن الذين ضحى بنفسه من أجلهم سيظلون يذكرون له جميل صُنعه ويدافعون عن حقوقه وحقوق أبنائه من بعده الذين خلَّفهم وراءه وذهب إلى غايته النبيلة ليحظى كل واحد منهم بلقب "يتيم" ويحظى أبوهم بلقب الشهيد بل حتى هذا اللقب (لقب الشهيد) ربّما بخل البعض عليه به وهذا ما هو ملموس مع الأسف من قِبل البعض وخاصة أحزاب اللقاء المشترك التي آثرت الصمت والإغضاء عن دوره ولم تكلّف نفسها بالحديث عنه والإشادة بدوره وسمو الهدف الذي استُشهد من أجله ولكي يكتمل المشهد الحزين دعونا نتخيل شهيداً وافقاً أمام قادة أحزاب اللقاء المشترك ممطراً إياهم بوابل أسئلته وللقارئ أن يتخيَّل إجاباتهم وكيف ستكون وإن كنت أتوقّع أنهم سيعجزون عن إيجاد جواب مقنع مبرر سلبية موقفهم ذاك...:
- ألم أُضحِ بروحي من أجل الوطن وعزته وكرامته؟
- ألم أتصدَّ لأعدائه الذين يسعون إلى نبذ الفرقة بين أبنائه وزرع الطائفية المقيتة، المستوردة في صفوفهم؟
- ألم أؤثر مصلحة الوطن وأمنه واستقراره على مصلحتي الخاصة وفضلّت الموت على الحياة ولم أتهالك عليها وعلى بهرجها الزائل كما تفعلون؟
- ألم أقاتل واستشهد في سبيل المبادئ والمثل الوطنية التي تشبّعت بها واسترخصت نفسي في سبيلها ومت من أجلها؟
- ألم يُحرَم أبنائي برحيلي الأبدي من عطف وحنان وعطاء وتوفير الممكن من وسائل العيش والراحة لهم؟... ألم يُحرموا من متابعتهم وتنشئتهم وتعليمهم كما تفعلون وكما يفعل سائر الآباء مع أبنائهم في شتى مراحل حياتهم؟
- ألم يحرَم أبنائي من ذلك كلّه في حين تعيشون أنتم بين أبنائكم وتسهرون على راحتهم وتبذلون لهم كل غالٍ ونفيس؟ .... هل يستطيع أحد منكم أن ينكر أنّه لولا تضحيتي بروحي لما استتب الأمن واستقرّ الوضع لكم ولما صرتم قادة وأمناء أحزاب؟...
- ألم يكن الأجدر بكم وأنتم تروني أنا وزملائي نضحي بأنفسنا أن تساندونا بالموقف أو حتى بالكلمة بدلاً من أن تقفوا موقفكم السلبي ذاك؟
- ألم يكن من الأجدر بكم أن تترفعوا عن الصغائر وتبتعدوا عن أساليب الكيد السياسي واستثمار المواقف الوطنية بتغييب الحس الوطني وحضور الحس المصلحي ومواقف التَّشفي؟
... ألم يكن الأجدر بكم تسجيل موقف وطني في مرحلة الوطن فيها أحوج ما يكون إلى جهودكم كقادة أحزاب وأصحاب رأي - موقف تنتصرون فيه للوطن ووحدته وتتصدون لكل من يحاول النيل منهما والسعي إلى إذكاء روح الفتنة والفُرقة في صفوف أبنائه؟... ألم يكن الأجدر بكم... الخ؟... أظن أنّ مثل هذه الأسئلة لم تخطر لكم على بال لانشغال بالكم وتفكيركم بأمور ترونها أهم مما ضحيتُ من أجله، لذلك فلا عجب إن عييتم عن الرد...!
ولكن مع ذلك كله ورغم تنكُّركم لدوري حسبي أنني بذلت روحي في سبيل مبدأ آمنت به، مبدأ الحاضر الوحيد فيه هو الوطن لا سواه ولم تكن لي مصلحة غير مصلحته...
بذلت روحي غير ضانٍ بها عليه، غير منَّان بما قدّمت، فعلت ذلك لأنني ليس لي إلاَّ موقف واحد لم أحِد عنه، لا مواقف أميل بها بحسب اتجاه رياح المصالح الأنانية الخاصة...
فعلت ذلك لأنني لا أجيد لعبة الحساب والتلاعب بالأرقام، وتكديس الأرصدة... فعلت ذلك لأنني لا أعرف من الأرقام سوى الرقم "واحد" !! الذي ينبغي أن يكون هو الحاضر الوحيد في قلوب وعقول جميع أبناء الوطن.. فعلت ذلك وضحيت بروحي غير مخلّف ورائي من الأرصدة سوى رصيد أعتبره أثمن من كل رصيد وهو حبّي في قلوب البسطاء من أبناء الشَّعب الذين يجيدون قراءة المواقف الوطنية أفضل مما تقرؤون فذلك عندي أثمن رصيد وخير ذُخر "ورحمة ربك خير ممَّا يجمعون" (الزخرف - الآية 32)...