محمد عبد الرازق أبو مصطفى
Email:MAAM39@hotmail. com
عندما يقابلك بوجهه الطلق الصبوح و تواضعه الجمّ الجميل ، و بوقاره و هدوئه يبدو أمامك شخصاً عادياً "لا له ولا عليه"، و لكنك تُفاجأ عندما تعرف أنه شخصية بارزة و كريمة و أصيلة في آن ٍ واحد ، فهو البروفيسور عبد الفتاح محمد العويسي ( المقدسي ) الخبير الدولي في مجال الدراسات الإنسانية و الاجتماعية ، و زميل الجمعية الملكية التاريخية في بريطانيا ، أسّس العديد من المشاريع الأكاديمية الدولية ، حصل على عدّة جوائز أكاديمية و تقديرية منها : وسام عمدة مدينة ( ستيرلينج ) الاسكتلندية ، و جائزة الإبداع و جائزة الريادة في صناعة التاريخ ، إضافة ً إلى ذلك فهو شخصية بارزة في حزب العمّال البريطاني ( يحمل الجنسية البريطانية ) و له اهتمامات متعدّدة و متنوّعة حول دراسات بيت المقدس و أوّل أستاذ كرسيّ لدراسات بيت المقدس.
قدّم البروفيسور الفلسطيني الأصل / عبد الفتاح العويسي استقالته من حزب العمال البريطاني و ذلك في رسالة وجّهها إلى ( غوردن براون ) رئيس الوزراء البريطاني احتجاجا ً على تصريحاته أمام احتفال أقيم في الكنيس اليهودي ّ بفنشلي بلندن في 8 مايو 2008 م ، حيث صرّح رئيس الوزراء البريطاني : " إن ّ قيام دولة إسرائيل كان أعظم إنجاز في القرن العشرين".
و كانت الرسالة موجّهة إلى غوردن براون في 10 مايو 2008 م حيث جاء فيها : " عندما تحتفل أنت بمرور 60 سنة على قيام دولة إسرائيل ، فإنني أحيي ذكرى 60 عاماً على نكبة فلسطين ، و كوني بريطاني فلسطيني ، فبالتأكيد أن تصريحاتك قد آذتني بشكل شخصي ، و بالتالي أقدم استقالتي من حزب العمال اعتباراً من تاريخه ". كما استفسر البروفيسور العويسي :
" كيف يمكن اعتبار قيام إسرائيل من أعظم إنجازات القرن العشرين ، في الوقت الذي تعد ّ فيه إسرائيل من قبل العديد من الناس أسوأ من جنوب أفريقيا أيام العنصرية. و كما تعلم كونك مؤرّخاً و سياسياً فإن قيام دولة إسرائيل أدى إلى نكبة فلسطين و 6 حروب و تشريد 6 ملايين لاجئ فلسطيني ، و وجود 3 ملايين تحت الاحتلال الإسرائيلي ، و معاناة 1. 5 مليون فلسطيني من التمييز و الاضطهاد داخل إسرائيل ، و 254 كيلو متر من جدار الفصل العنصري و 562 نقطة تفتيش إذلالية و وجود عشرين ألف سجين سياسي في المعتقلات الإسرائيلية ، و وجود 468. 831 مستعمراً جديداً في الأرض المحتلة ". و أضاف أنه بلا شك فإن " مثل هذا التصريح لن يساعد على ما كنت تأمله من أن المستقبل سيجمع سويّة أبناء إبراهيم للعيش معاً بسلام ، فليس هذا هو الطريق لتحقيق السلام في أرض السلام ، و الوسيلة لجمع الفرقاء و المتحاربين ".
و أضاف البروفيسور العويسي : " كنت أتوقع أن الوقت قد حان لكي تعتذر بريطانيا للشعب الفلسطيني عن دورها في تأسيس إسرائيل في المنطقة العربية ، و الذي أدى إلى محو اسم فلسطين ، و رفض الاعتراف بأية حقوق إنسانية أو وطنية أو تاريخية أو سياسية أو دينية للفلسطينيين ،و بعد مرور ستين عاماً من المعاناة المتواصلة و المأساة و المذابح و التطهير العرقي للفلسطينيين ".
و من هنا نرى أنه بالرغم من أن البروفيسور عبد الفتاح العويسي يعيش في بريطانيا ، بل و يحمل الجنسية البريطانية إلا أن ذلك لم يمنعه من الإدانة و الاحتجاج بطريقة حضارية متميزة على تصريحات رئيس الوزراء البريطاني.
و كلنا يعرف الدور البريطاني اللعين في تمكين العصابات الصهيونية من اغتصاب أرض فلسطين و طرد شعبها ، و إمداد تلك العصابات بالمساعدات و المال و السلاح و الرجال ، و قمع الثورات و كلنا يعرف ذلك الوعد المشئوم الذي أصدره وزير الخارجية البريطاني آنذاك ( بلفور ) في 2 نوفمبر 1917 م بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
و إذا كان رئيس الوزراء يعتبر أن قيام ( دولة إسرائيل ) هو أعظم إنجاز في القرن العشرين ، فإن هذا لا يدل إلا على مدى التواطؤ مع الصهاينة المحتلين المجرمين ، و الإقرار بكل الجرائم القذرة التي يرتكبها الصهاينة في فلسطين من قتل و قصف ، و اجتياحات و اغتيالات و اعتقالات و نسف و تدمير للبيوت و تجريف للأراضي ، و ضرب الحصار الغاشم الظالم على قطاع غزة ، كما أنه بذلك يقرّ و يبارك كل الجرائم و المجازر التي ارتكبها الصهاينة في لبنان و التي من ضمنها اجتياح لبنان في صيف 1982 م و ارتكاب مجزرة صبرا و شاتيلا و مجزرتي ( قانا ) و العدوان الأخير في صيف 2006 م على لبنان و تدمير بنيته التحتية بكل الصلف و الغرور و الغطرسة و العنجهية ، و من ناحية أخرى فإن الصمت العربي و الإسلامي على مثل هذه التصريحات ما هو إلا بمثابة الموافقة الشاملة على قيام ( دولة إسرائيل ) و إن يكن بطرق غير معلنة ، و مباركة هذا الكيان العنصري البغيض في وقت تتزايد فيه أعداد اللاجئين في الشتات ، و تزداد معاناتهم أكثر و أكثر ، و في وقت لا تزال فيه المؤامرة مستمرة على اللاجئين بطردهم و تمزيقهم و تشريدهم إلى كل بلدان العالم دون رحمة و لا هوادة ، و دون أن تستقبل الدول العربية أولئك اللاجئين الذين طردوا و شرّدوا نتيجة لحرب الخليج ( تلك اللعبة القذرة ) حتى احتضنتهم استراليا و تشيلي و البرازيل و السويد و النرويج و غيرها من دول العالم ، و قد وصل اللاجئون في الشتات الثاني لأكثر من ( 32 ) دولة يمكن أن تستوعبهم دولة عربية واحدة فقط مهما كانت مساحتها و إمكانياتها متواضعة.
و حتى لا نستطرد كثيراً، و لا نثقل على الأحبة القرّاء ، و حتى لا نخوض في مشاكل نحن في غنى عنها و الكل يعرفها ، فإنني أختصر بل و أختم فأقول : إذا كان العرب يرون أنه لا داعي و لو لمجرّد الإدانة و الاحتجاج على تصريحات رئيس الوزراء البريطاني أو غيره من الذين هنّؤوا و باركوا قيام ( دولة إسرائيل ) و شاركوها في احتفالاتها التي أقيمت على عذابات و جراحات الشعب الفلسطيني ، و فرحاً بمأساتنا و نكبتنا و اغتصاب أرضنا و مقدّساتنا و اعتقال رجالنا و نسائنا و اغتيال قادتنا و فلذات أكبادنا - فإن البروفيسور عبد الفتاح العويسي قد قام بالواجب عنهم جميعا ، و أسقط عنهم الأمر الذي يحرجهم و يثقل كاهلهم ثقل الجبال ، و نسأل الله سبحانه و تعالى أن يكتب لهم أجر الأمة كاملة ، فهو رجل في أمّة ، يتكلم بلسان الحال لأمة تعدادها يفوق المليار مسلم ، و لكنهم غثاء كغثاء السيل ، و كم من رجال أحيوا موات الأمة بمواقفهم و بكلماتهم ، و لكن كل ما نخشاه هو أن تكون الأمة قد تقزمت حتى صارت تعادل رجلاً واحداً فقط ، و هذه هي الطامة الكبرى ، فلو أننا سمعنا أكثر من مليار إدانة أو احتجاج ، أو أكثر من مليار صرخة ضد مثل هذه التصريحات لما كان حالنا هكذا بين الأمم.