خلت، فاستعدنا مشهد مجلس بريمر للحكم الانتقالي في العراق، وهو يعلن أن التاسع من
نيسان، يوم احتلال بغداد، سيصبح عيداً وطنياً للعراق، ثم يأتي الرد سريعاً بمقاومة
عراقية بطولية فريدة في عالمنا المعاصر محوّلة ذلك الإعلان إلى "مهزلة"، وذلك
الاحتلال إلى نقطة تحوّل في تاريخ المنطقة والعالم، تراجع معها المشروع الإمبراطوري
الأمريكي للهيمنة على العالم، من مشروع لقرن كامل إلى مشروع لم يستطع الصمود لسنوات
قليلة.
ولو عادت بنا الذاكرة لسبع
سنوات خلت، فاستعدنا مشهد جورج بوش وهو يعلن بكل غطرسة المستعمرين ومجرمي الحروب أن
"المهمة في العراق قد انتهت" وأن الحرب على العراقيين قد حققت أهدافها، فإذ بنا نجد
أن حرب العراقيين على الاحتلال قد بدأت وما تزال مستمرة فتكبد الدولة الأقوى
والأعظم أفدح الخسائر البشرية والمادية والسياسية والاستراتيجية والأخلاقية لتصبح
عاجزة، حتى عن حماية قاعدتها في قيرغيزستان بعد سلسلة هزائم واجهتها على امتداد
العالم.
ولو عادت بنا الذاكرة لسبع سنوات خلت، لاستعدنا مشهداً كان الحديث فيه
عن "فيدرالية" تبدأ من الجنوب حديثاً طاغياً، وعن نظام ملكي قادم من الشرق احتمالاً
وارداً، وعن سلخ مناطق عراقية من هنا وهناك لإلحاقها بدول مجاورة تحليلاً
رائجاً.
وإذ بنا اليوم نرى العراق يطوي هذه الأحاديث والاحتمالات والتحليلات، بل
يطوي معها أوهام المراهنين على سقوط الوطنية العراقية أمام عصبيات عرقية ومذهبية
متفجرة..
ولو عادت بنا الذاكرة لسبع سنوات خلت تذكرنا بالوعود التي أغدقت على
العراق بعهد من الرخاء والنماء والأمن والحرية، لرأينا اليوم مع كل العراقيين كيف
بات بلدهم من أكثر دول العالم فساداً، مجتمعهم الغني أكثر المجتمعات فقراً، وحالهم
الأمني الأسوأ في العالم، أما الحرية فأفضل مثل عليها هو ما سمعناه عن تهديد
"بالعنف" إذا لم تأت "الانتخابات" على قياس بعض "كبار" المرشحين.
لكن الاكتفاء
بالحديث بهذه المشاهد الهامة وما تنطوي عليه من دلالات تاريخية بالغة الخطورة، وما
رافقها ويرافقها، من مشاهد بطولية رائعة لشعب العراق بمقاوميه وقياداته ورموزه
ورئيسه، يحمل بعض التعسف والتجاهل لحقائق أخرى ينبغي أن تبقى حاضرة في أذهاننا نرسم
في ضوئها رؤانا وتحليلاتنا وخططنا المستقبلية، ذلك أن إلحاق الهزيمة بالعدو لا يعني
بالضرورة انتصار الوطن، وأن لهذا الانتصار شروطا لا بد من تحقيقها، وهي تختلف
أحيانا عن شروط مقاومة العدو وهزيمة جيوشه.
فمن الحقائق التي ينبغي ألا تغيب عن
البال: - أولا: إن الاحتلال الأمريكي ما زال موجوداً في العراق، وإن قواته وإن
انسحبت من المدن إلى قواعد بعيدة لتخفيف الخسائر، فإن مخططاته ما زالت موجودة
وبقوة، في كل الأرض العراقية وهي تقوم على التدمير المنهجي للدولة والمجتمع، والنهب
المتصاعد للموارد والثروات، والتفتيت الدموي لوحدة الوطن ولكل مكون من
مكوناته.
- ثانياً: إن الاحتلال الأمريكي الذي دخل إلى العراق حاملاً مشروع
التقسيم والفدرلة بيد، وباليد الأخرى مشروع الحرب الأهلية، قد نجح في تسعير
الخلافات الداخلية وتسهيل التدخلات الإقليمية، حتى بات ممكنا له أن يتراجع شكلاً
إلى الظل، يسلّط الأضواء على كل أنواع الصراعات المحلية والإقليمية، مستفيداً
بالطبع من أخطاء وخطايا وقعت بها بعض الأطراف في الداخل والمحيط الإقليمي ليبدو
وكأنه، أي الاحتلال الأمريكي، بات خارج اللعبة، فيما ما زالت أجهزته، ومعها الموساد
الصهيوني، تعيد بإتقان لعبة التفتيت الدموي إلى الواجهة.
وما التفجيرات والمجازر
الدموية المتلاحقة، قبل الانتخابات وبعدها، ببعيدة عن مخططاته الشريرة ولو أن
تنفيذها لا يتم على يد أجهزته بشكل مباشر.
- ثالثاً: لقد نجح الاحتلال في أن
يستخدم الانكفاء العسكري الذي أجبر عليه بفضل المقاومة، والوعد بجلاء قواته الذي
اضطر إلى إعلانه بسبب فداحة خسائره، في زرع أوهام سلطوية بين جهات عراقية وإقليمية
عدة أخذت تختلف على "جلد الدب قبل صيده"، فقدمت أولوية الصراعات على السلطة على
أولوية مواجهة الاحتلال، مما جعل الكثيرين داخل العراق وخارجه ينسون أن هناك
احتلالاً ينبغي إزاحته ويستعملون تعابير مضللة من نوع "السلام والأمن والاستقرار"
في العراق، وكأن هذه الأمور يمكن تحقيقها مع وجود المحتل ومخططاته ومطامعه.
-
رابعاً: وبدلاً من أن تصبح المقاومة العراقية الباسلة، "التي حققت إنجازات تاريخية
كبرى على صعيد المنطقة والعالم، بل نجحت مع مثيلاتها في فلسطين ولبنان وصولاً إلى
أفغانستان في أن تعيد رسم معادلات القوى وموازينها" مصدر اعتزاز وافتخار، تحول
المشهد العراقي إلى متابعة ما يسمى بعلميات سياسية وانتخابية، وصراعات دموية،
وتدخلات خارجية، ووسط تشكيك متصاعد بدور المقاومة وفعاليتها ناهيك عن وصمها
بالإرهاب وهي نقيضته بالكامل.
أمام هذه الحقائق الأربع، وحقائق عديدة أخرى، تبرز
مسؤولية جميع الأحرار في العراق وخارجه مهمات عاجلة تتلخص: - أولا: تحصين المقاومة
بالوحدة الوطنية، ومحاصرة كل معرقلي المصالحة الوطنية الشاملة تحت هذه الحجة أو
تلك.
- ثانياً: التركيز على أولوية مقاومة الاحتلال وإخضاع كل الخلافات
والتناقضات الأخرى لصالح التناقض الرئيسي، فكل الشرور أدخلها الاحتلال أو دخلت معه،
وستخرج حتماً بخروجه.
- ثالثاً: أن يجري الجميع داخل العراق وخارجه مراجعات
جريئة ونقدية لتجاربهم وسياساتهم، ماضياً وحاضراً، لتكون هذه المراجعات مدخلاً
لتصحيح الخلافات داخل العراق وخارجه.
رابعاً: الكف النهائي عن سياسات الاجتثاث
والإقصاء لا لأنها فقط أدت إلى نتائج عكسية لما كان يتوخاه أصحابها بل زادت من وزن
موقع القوى المستهدفة بالاجتثاث والإقصاء، لا سيما البعث، بل أيضاً لأن الاستمرار
في هذه السياسات هو إصرار على إبقاء الجرح العراقي مفتوحاً، والعنف مستمراً،
والتوتر والاحتقان قائمين.
لقد أراد الاحتلال أن يكون يوم 9 نيسان عيداً وطنياً
له ولمن جاء معه، فحوّله العراقيون إلى يوم لانطلاق واحدة من أهم مقاومات العصر، لن
تستطيع كل الأضاليل والأحاييل والمؤامرات إطفاء نورها ووهجها.