البخاري
الرابطة في عدن على يد كوكبة من المناضلين الذين اعتمدوا منهج الوسطية والاعتدال في
تعاطيهم مع الأوضاع المحيطة بهم والتي كان يعيشها الوطن آنذاك ، وحفلت بنود تأسيسه
بالواقعية والتطلع إلى غد أفضل، وبذلك توالت أطروحاته ورؤاه ومبادرته، كلما عاش
الوطن أجواء أزمة أو مأزق، وما كان لحزب الرابطة إلا أن يكون وحدوياً ومنذ تأسيس الكتيبة الأولى في مصر الكنانة والتي
ضمت طليعة المناضلين من أبناء اليمن شماله وجنوبه محمد محمود الزبيري ومحمد أحمد
نعمان ورفاقهم من أبناء الشمال، ومحمد علي الجفري ومحمد بن أبي بكر بن فريد وشيخان
الحبشي ورفاقهم من أبناء الجنوب وعاد الجميع إلى أرض الوطن لمقارعة الحكم الإمامي
في الشمال والاستعمار البريطاني في الجنوب بهدف إحداث التغيير المطلوب وتقريب يوم
الخلاص والانعتاق من جور الحكم الإمامي وتسلط المستعمر البريطاني وعندما علا زخم
الثوار وطبيعة نظرتهم للأوضاع القائمة، نكل بهم المتسلطون على رقاب أبناء وطنهم
وكان المناضلون في شمال الوطن اليمني قد فقدوا رفاقهم شهداء ثورة 1948 م واستبيحت
عاصمة اليمن عبر العصور (صنعاء) من قبل فلول الحكم الإمامي والتي ساند أبناؤها
أبطال ثورة 1948 م وعندما همّ الإمام أن يلحق الزبيري ورفاقه بمن سبقهم، لجأوا إلى
جنوب الوطن اليمني واستقروا في مدينة عدن ومن هناك شرعوا بالتخطيط والإعداد لموقعة
جديدة تنهي حكم الأئمة والى الأبد، فكان منهم الاتصال بقواعد المناضلين في الداخل
ومدهم بالمعلومات والمعونات والتي كان يقدمها للثوار والمناضلين التجار من أبناء
المناطق الشمالية ولم يكن حظ المناضلين في جنوب الوطن اليمني بمنأى عمَّا أصاب
إخوانهم مناضلي الشمال، فقد كشر الاستعمار البريطاني عن أنيابه وشنت طائراته هجوماً
مسعوراً على منازل وقرى قيادة وقواعد أبناء حزب الرابطة في أكثر من منطقة من مناطق
الجنوب اليمني المحتل حينها ونزح الرابطيون إلى شمال الوطن تباعاً في العام 1959
واستقر غالبية الثوار في مدينة تعز وحينها خصص دار العربدي والواقع داخل باب موسى
بمحافظة تعز مقراً رئيساً لقيادة الجيش اللحجي وخصص للقيادات الرابطية العديد من
الدور والقصور مثل دار البستان ودار الباشا وغيرها من الدور الواقعة في المدينة
القديمة جوار الميدان (مستشفى المظفر) حالياً، وكان المكتب السياسي للحزب في البناء
الذي يشغله متحف تعز حالياً.
تلك الأوضاع التي جعلت مناضلي الشمال يلجأون إلى
الجنوب ومناضلي الجنوب يلجأون إلى الشمال، وما تلاها من أحداث وحتى تفجر ثورتي
سبتمبر وأكتوبر تدل على واحدية النضال والتراب والشعب اليمني، لقد تعاطى المناضلون
مع ذلك التناقض والكره المتبادل بين الحكم الإمامي والاستعمار البريطاني بكفاءة
عالية وسخروها للأهداف والتطلعات المشروعة لشعبنا اليمني، وكان كل من الاستعمار
البريطاني والحكم الإمامي يطبق في تعامله مع المناضلين مضمون تلك المقولة "عدو عدوي
صديقي"، وأذكر أنه في تلك الفترة بينما كنت عائداً مع والدي من عدن عبر سلطنة لحج
حينها وخضوعنا للتفتيش في منطقة كرش، عثر عملاء الاستعمار على رسالة مع والدي
مرسلة من خلية رابطية في لحج إلى القيادة الرابطية بتعز، وتم اقتيادنا وسط حراسة
مشددة نحو لحج مرة أخرى وأودعونا غرفة قصر يقع في الشمال الشرقي منها، ويبدو أنه
كان مقراً للاستخبارات حيث كان منعزلاً ولم تجاوره أية مباني وبدأوا بالتحقيق مع
والدي، طالبين مصدر الرسالة ومرسلها وكان رد والدي وردي دائما أنناً من أبناء شمال
الوطن وأننا مكلفون من قبل الحكومة اليمنية بتوفير متطلبات الإعاشة والكساء
للقيادات الرابطية والجيش اللحجي وأننا في العادة نحمل رسائل من المبعدين في تعز
إلى أسرهم ومعارفهم في لحج أوعدن وكذلك نحمل رسائل من أسرهم ومعارفهم إليهم في تعز
ومن الصعب أن نعرف مصدر الرسالة. . .
ولكنهم لم يقتنعوا بوجهة نظرنا، فكانوا
يخرجوني ووالدي لنصطلي بحر الشمس لفترات ونقف في أوضاع جسدية مختلفة لا تساعدنا على
الوقوف الثابت فنقع على الرمال المحرقة فيما يسخر منا من يتولى تعذيبنا وفجأة قال
والدي بمرارة لذلك الأمير ومن معه والذي كان يشرف على التحقيق معنا لو كنتم لدينا
في تعز لقمنا بواجبكم إذا قدر لكم النزوح كمن سبقكم وقمنا بواجبهم، وكانت لتلك
الكلمات الأثر الكبير في نفس ذلك الأمير حيث تم إطلاق سراحنا وحملنا إلى منطقة كرش
ومن ثم توجهنا مع سيارتنا ، والتي حجزت هنالك نحو المدينة تعز لنوصل ما طلب منا من
غذاء وكساء ، وسبحان الله العظيم ، كيف توالت بعدها أفواج النازحين من شتى مناطق
الجنوب ، نحو الشمال وتحديداً مدينة تعز ، وذلك نتيجة للصراعات التي كانت تنشب
وتتجدد بين حين وآخر وهكذا نزح الكثير من المناضلين الذين قارعوا الاستعمار
البريطاني من مختلف فئات الشعب وطلائع نضاله ومن ثم ذلك الصراع الذي أعقب الاستقلال
وخروج عناصر جبهة التحرير نازحين إلى تعز وبعدها ما نتج عن صراعات الرفاق الدموية
من نزوح العشرات ابتداءً بجماعة قحطان الشعبي ثم فئات سالم ربيع علي ومطيع وعشال
وعلي ناصر محمد وكل ما ذكرناه يدلل على واحدية التراب اليمني والثورة اليمنية
.
ومما أسلفنا ذكره نتبين أن حزب الرابطة لبناء اليمن (رأي) هو أول حزب سياسي
قاوم الاستعمار البريطاني وأول حزب نزح من جنوب الوطن إلى شماله ثم تعرض مؤسسوه
لشتى أنواع الاضطهاد وإنكار الوجود والنفي بل والتصفية الجسدية ومصادرة الممتلكات
ومع ذلك فقد ظل حزب الرابطة محباً لوطنه، عاملاً من خلال أطروحاته ورؤاه على
استقرار شعبه ومن وحي ذلك جاءت مبادرته في وثيقة العهد والاتفاق ومشروع الحكم
المحلي عام 1997م والمشروع الوطني الشامل للإصلاح عام 2005م، بما يعزز التجربة
الديمقراطية في بلادنا وكذلك مشاريع التطوير التنموي خاصة في الجانب الاقتصادي
والتعليمي، وقد أشار إلى جدية الأطروحات الرابطية ووطنيتها وواقعيتها الأمين العام
للحزب الأستاذ/ محسن محمد بن بكر بن فريد وذلك في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة
الرأي الكويتية.
وإن حزباً نضالياً أوصل قضية احتلال جنوب اليمن من قبل المستعمر
البريطاني إلى منبر الأمم المتحدة في الخمسينات سيظل مع ما أشرنا إليه "أبيُّ وعصي
" عن الخفوت والزوال.