سليمان
الحكيم
الحكيم
يخوض العراق أيامه الراهنة ببرك
الدم البريء، وتضطرم من حوله عاصفتان من لهب، تتأجج أولاهما بنار الإيرانيين التي
لم يخمد لها أوار منذ أكثر من ألف عام؛ وكلما ساد الظن بأن عوامل الزمن والدين
والجيرة قد خففت من سعيرها ولطفت لظاها، إذا بالحقد الإيراني على العراق ينتهز أول
سانحة لينفخ في جمرها الراكد ويشعلها حروباً وتآمراً وخراباً على جمجمة العرب ومنبع
حضارتهم ومستودع رموزهم التاريخية والدينية والعلمية.
وما كان لانبعاث "قورش" الإيراني بمشروعه التوسعي
في الإقليم العربي أن يصل بأذاه إلى العراق لولا ذلك النفر من عملائه الذين كانوا
مبعثرين في أطراف الأرض يضربون في مناكبها على غير هدى، متسعكين على أبواب هيئات
المعونة الاجتماعية الغربية، ثم أتى بهم الاحتلال الأمريكي ليخربوا البناء القائم
والمصنع العامل والزراعة الخصبة، ويخرقوا مناعة العراق وحصانته ويجردوه من سيفه
ودرعه مسلمينه إلى أشد أعدائه لؤماً وحقدا.
وعلى حين كان جانب من جهدهم منصبّاً
على افتعال فتنة طائفية وترسيخ طقوس وثنية تشغل العراقيين عنهم، فإن جلّ ذلك الجهد
كان منصرفاً لاغتراف كل ما تصل إليه أيديهم من المال العام، حتى استحقت مأساة
العراق عن جدارة عنوان "سرقة العصر".
.كنت في مكتبي ببغداد أرتب أوراقي استعدادا
للسفر في جولة تتعلق بعملي كمستشار قانوني لشركة عربية، وعلى غير ميعاد طرق الباب
أصدقاء قدامى كان أحدهم من غلاة البعثيين ثم تماشى مع الأحوال وانقلب إلى واحد من
غلاة الصدريين وقد أطال لحيته وطوّق خنصره بخاتم من عقيق، والثاني كان ضابطاً كبيرا
في الجيش العراقي وصار اليوم مستشاراً لمسؤول تنفيذي في السلطة الجديدة، ورابعنا
محام قدير تحسنت أحواله المالية في ظل القوانين الجديدة والمنازعات التي نتجت
عنها.
وبطبيعة الحال فإن أوضاع العراق كانت محور جلستنا الطويلة، وقد انتبهت
خلال المناقشات أن أحداً منهم- وهم جميعا مستفيدون من النظام الجديد- لا يحمل
احتراماً لأي من الرموز السياسية والدينية لهذا النظام، وأن المقارنة ما بينه وبين
النظام السابق والرجال في كلا النظامين كانت تنتهي دائما لصالح هذا الأخير.
ومن
عجائب ما حدثني به صديقنا الضابط الكبير عما يُسمى بالدمج في تشكيل القوات
المسلّحة، ومؤداه أن أفواجاً من رجال المجلس الأعلى ومن الصدريين يجري ترشيحهم
للانضمام للجيش والشرطة، وبعد أن يخوضوا دورة تدريب أساسي لمدة ستة شهور يتم
تنسيبهم لقطعات الجيش ومراكز الشرطة؛ ولكن برتب تماثل رتب من يقاربهم بالسن من
الضباط العاملين، وكذلك فإن من يبلغ الأربعين من عمره مثلا فقد يُمنح رتبة عميد!
وزاد صاحبي مقسماً أن واحداً من هؤلاء قد مُنح رتبة عقيد وهو أمّي عاجز عن القراءة
والكتابة.
وتذكرت وقتها حكاية محافظ بابل المسلماني الذي فضحته وكشفت تزوير
شهادته تأشيرة كتبها على هامش عريضة رفعها إليه أحد المواطنين وجاء فيها "أشوفه
باجر"، أي "أراه غدا"،! ..كانت مدونة "كتابات" قد كشفت اسم إبراهيم الجعفري
باعتباره مرشح الصدريين في الاستفتاء الذي أجروه بين صفوف أنصارهم لاختيار رئيس
الوزراء المقبل، وقد شرح المقال أسباب اختيار الصدريين له، وعندما استعدت مع صديقنا
الصدري ذلك المقال، فاجأني بالقول إن أهم سبب لاختيار الصدريين للجعفري هو رغبة
مقتدى الصدر في إذلال نوري المالكي ودفعه لمتابعة مشهد دخول الجعفري مجلس النواب
للحصول على ثقة أعضائه بتولي المنصب مجددا بعد أن خرج منه مقهورا بمؤامرة انقلاب
حزبي داخلي دبّرها الثلاثي المالكي- العبادي- الأديب.
ووصل بنا الحديث إلى
عمليات التفجير والاغتيالات التي ضربت كل محافظات العراق، فوجدنا أنفسنا متفقين على
أنها رسائل إيرانية جرى تكليف تنظيم القاعدة بإيصالها لمن يعنيهم الأمر وهي تحمل
نمودجاً ملطفا لما ستقوم به إيران فيما لو جرى تحرير القرار العراقي من هيمنة
عملائها في الإئتلافين المشؤومين.
وتتأجج العاصفة الثانية بنارالاحتلال الأمريكي
الذي جعل من العراق ساحة لاختبار عملية الوفاق بينه وبين النظام الإيراني وقياس
المدى الذي يمكن أن يصل إليه ذلك الوفاق.
ويبدو أن الولايات المتحدة قد قررت ترك
الساحة العراقية مفتوحة تماماً أمام التوغل الإيراني وهيمنة عملاء إيران على مفاصل
السلطة والثروة في العراق كمقدم ثمن سيشمل الخليج العربي مقابل التخلي عن تطوير
سلاح نووي والابتعاد عن دول الطوق العربية التي تحيط بإسرائيل، وقطع العلاقة مع قوى
المقاومة وتهدئة اللهجة تجاهها تمهيداً للتطبيع الإيراني معها، والاتفاق على أسس
يتم بموجبها تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط.
إن قصة الإحتلال الأمريكي للعراق
تتمحور كلها حول هذه المسألة بالدرجة الأولى.
لقد رفض الرئيس صدام حسين بصورة
قاطعة لمرتين على الأقل عروضاً لحل مشاكله مع الولايات المتحدة الأمريكية مقابل وعد
بالصلح مع إسرائيل، ولما يئست الإدارة الأمريكية منه رتبت لغزو العراق من أجل
إخراجه من معادلة الصراع العربي- الإسرائيلي، وتقديم العراق عربوناً لوفاق مع القوة
الإيرانية الناهضة والمستعدة بحكم شواهد التاريخ القريب للتفاهم مع إسرائيل، وتثبيت
الكيان الكردي التوسعي في شمال العراق وتحويله إلى موطئ قدم للتسلل الإسرائيلي بحكم
موقعه الهام الذي يطل على سوريا وتركيا وإيران، فضلا عن قدراته في تقديم العون لكل
متطلع لاختراق أي ركن في العراق.
الدم البريء، وتضطرم من حوله عاصفتان من لهب، تتأجج أولاهما بنار الإيرانيين التي
لم يخمد لها أوار منذ أكثر من ألف عام؛ وكلما ساد الظن بأن عوامل الزمن والدين
والجيرة قد خففت من سعيرها ولطفت لظاها، إذا بالحقد الإيراني على العراق ينتهز أول
سانحة لينفخ في جمرها الراكد ويشعلها حروباً وتآمراً وخراباً على جمجمة العرب ومنبع
حضارتهم ومستودع رموزهم التاريخية والدينية والعلمية.
وما كان لانبعاث "قورش" الإيراني بمشروعه التوسعي
في الإقليم العربي أن يصل بأذاه إلى العراق لولا ذلك النفر من عملائه الذين كانوا
مبعثرين في أطراف الأرض يضربون في مناكبها على غير هدى، متسعكين على أبواب هيئات
المعونة الاجتماعية الغربية، ثم أتى بهم الاحتلال الأمريكي ليخربوا البناء القائم
والمصنع العامل والزراعة الخصبة، ويخرقوا مناعة العراق وحصانته ويجردوه من سيفه
ودرعه مسلمينه إلى أشد أعدائه لؤماً وحقدا.
وعلى حين كان جانب من جهدهم منصبّاً
على افتعال فتنة طائفية وترسيخ طقوس وثنية تشغل العراقيين عنهم، فإن جلّ ذلك الجهد
كان منصرفاً لاغتراف كل ما تصل إليه أيديهم من المال العام، حتى استحقت مأساة
العراق عن جدارة عنوان "سرقة العصر".
.كنت في مكتبي ببغداد أرتب أوراقي استعدادا
للسفر في جولة تتعلق بعملي كمستشار قانوني لشركة عربية، وعلى غير ميعاد طرق الباب
أصدقاء قدامى كان أحدهم من غلاة البعثيين ثم تماشى مع الأحوال وانقلب إلى واحد من
غلاة الصدريين وقد أطال لحيته وطوّق خنصره بخاتم من عقيق، والثاني كان ضابطاً كبيرا
في الجيش العراقي وصار اليوم مستشاراً لمسؤول تنفيذي في السلطة الجديدة، ورابعنا
محام قدير تحسنت أحواله المالية في ظل القوانين الجديدة والمنازعات التي نتجت
عنها.
وبطبيعة الحال فإن أوضاع العراق كانت محور جلستنا الطويلة، وقد انتبهت
خلال المناقشات أن أحداً منهم- وهم جميعا مستفيدون من النظام الجديد- لا يحمل
احتراماً لأي من الرموز السياسية والدينية لهذا النظام، وأن المقارنة ما بينه وبين
النظام السابق والرجال في كلا النظامين كانت تنتهي دائما لصالح هذا الأخير.
ومن
عجائب ما حدثني به صديقنا الضابط الكبير عما يُسمى بالدمج في تشكيل القوات
المسلّحة، ومؤداه أن أفواجاً من رجال المجلس الأعلى ومن الصدريين يجري ترشيحهم
للانضمام للجيش والشرطة، وبعد أن يخوضوا دورة تدريب أساسي لمدة ستة شهور يتم
تنسيبهم لقطعات الجيش ومراكز الشرطة؛ ولكن برتب تماثل رتب من يقاربهم بالسن من
الضباط العاملين، وكذلك فإن من يبلغ الأربعين من عمره مثلا فقد يُمنح رتبة عميد!
وزاد صاحبي مقسماً أن واحداً من هؤلاء قد مُنح رتبة عقيد وهو أمّي عاجز عن القراءة
والكتابة.
وتذكرت وقتها حكاية محافظ بابل المسلماني الذي فضحته وكشفت تزوير
شهادته تأشيرة كتبها على هامش عريضة رفعها إليه أحد المواطنين وجاء فيها "أشوفه
باجر"، أي "أراه غدا"،! ..كانت مدونة "كتابات" قد كشفت اسم إبراهيم الجعفري
باعتباره مرشح الصدريين في الاستفتاء الذي أجروه بين صفوف أنصارهم لاختيار رئيس
الوزراء المقبل، وقد شرح المقال أسباب اختيار الصدريين له، وعندما استعدت مع صديقنا
الصدري ذلك المقال، فاجأني بالقول إن أهم سبب لاختيار الصدريين للجعفري هو رغبة
مقتدى الصدر في إذلال نوري المالكي ودفعه لمتابعة مشهد دخول الجعفري مجلس النواب
للحصول على ثقة أعضائه بتولي المنصب مجددا بعد أن خرج منه مقهورا بمؤامرة انقلاب
حزبي داخلي دبّرها الثلاثي المالكي- العبادي- الأديب.
ووصل بنا الحديث إلى
عمليات التفجير والاغتيالات التي ضربت كل محافظات العراق، فوجدنا أنفسنا متفقين على
أنها رسائل إيرانية جرى تكليف تنظيم القاعدة بإيصالها لمن يعنيهم الأمر وهي تحمل
نمودجاً ملطفا لما ستقوم به إيران فيما لو جرى تحرير القرار العراقي من هيمنة
عملائها في الإئتلافين المشؤومين.
وتتأجج العاصفة الثانية بنارالاحتلال الأمريكي
الذي جعل من العراق ساحة لاختبار عملية الوفاق بينه وبين النظام الإيراني وقياس
المدى الذي يمكن أن يصل إليه ذلك الوفاق.
ويبدو أن الولايات المتحدة قد قررت ترك
الساحة العراقية مفتوحة تماماً أمام التوغل الإيراني وهيمنة عملاء إيران على مفاصل
السلطة والثروة في العراق كمقدم ثمن سيشمل الخليج العربي مقابل التخلي عن تطوير
سلاح نووي والابتعاد عن دول الطوق العربية التي تحيط بإسرائيل، وقطع العلاقة مع قوى
المقاومة وتهدئة اللهجة تجاهها تمهيداً للتطبيع الإيراني معها، والاتفاق على أسس
يتم بموجبها تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط.
إن قصة الإحتلال الأمريكي للعراق
تتمحور كلها حول هذه المسألة بالدرجة الأولى.
لقد رفض الرئيس صدام حسين بصورة
قاطعة لمرتين على الأقل عروضاً لحل مشاكله مع الولايات المتحدة الأمريكية مقابل وعد
بالصلح مع إسرائيل، ولما يئست الإدارة الأمريكية منه رتبت لغزو العراق من أجل
إخراجه من معادلة الصراع العربي- الإسرائيلي، وتقديم العراق عربوناً لوفاق مع القوة
الإيرانية الناهضة والمستعدة بحكم شواهد التاريخ القريب للتفاهم مع إسرائيل، وتثبيت
الكيان الكردي التوسعي في شمال العراق وتحويله إلى موطئ قدم للتسلل الإسرائيلي بحكم
موقعه الهام الذي يطل على سوريا وتركيا وإيران، فضلا عن قدراته في تقديم العون لكل
متطلع لاختراق أي ركن في العراق.