في اليمن يرتاح التناقض.. هنا حيث يمكن لتاجر السلاح أن يترأس مؤتمرات للسلام في وقت تزعق حاشيته بنداء الحرب، تدعم تمرداً في البلاد وتتأبط بندقية.. وشيخ القبيلة يدعو لدولة مدنية.. حديثه ليس لأنه من دعاة التمدن أو لأنه أخذ دورة تحضر في "بحشامة" قات مثلا ً.. بل حماقة قبيلي كثيراً ما يتعامل مع الآخرين بعقلية ساذجة وبدم بارد تمنحه ثقة وهمية فيما يطرح حين يظن أمره صدقاً.. حاله " مدكوم صدق نفسه "؛ إذ يتوق لدولة وهمية تمدنها ولا يزال يمشي برفقة العشرات من "المبندقين"، يرفض التوقف أمام إشارة المرور، يتجاوز القانون بالعرف ويسيء لتقاليدنا بطقوس قبلية لينة بالنسبة له كدستورنا الحالي، تتواءم مع رغبات الشيخ كما يحاك الدستور على مقاس الحاكم.. يتجسد فينا المثل القائل: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
في اليمن لو نبشت التاريخ لوجدت الحضارات ماضيها، لو وقفت على الحاضر فأنت وجه لوجه مع عدو الحضارات ومدمرها.. فالذائقة صارت لدى اليمنيين معطوبة والثقافة مقلوبة.. أن تتأبط الشر فأنت بطل وحين تضيء دروباً للسلام فأنت نذل، أن تهب لمعركة تتسيدها البندقية وتصبغها الدماء البريئة فتلك بطولة وتهادي الورود أو حملها إقدام ينافي الرجولة ويلغيها.. أن تتشبع ثقافتنا بالعنف فذاك ما تلزمه الضرورة، فيما الموسيقى تورث النفاق، فلا ترى النور إلى مناهجنا..
في صنعاء عاصمة اليمن حيث يعشعش التناقض ما إن تمر أمام الإدارة العامة للنظافة تجد كل المارين أيديهم على أنوفهم ولو كانوا على متن المركبات وتدرك أنك ولجت في شارع ملبد بالقذارة، فرائحة النتانة تغزوك من كل صوب وكأنك في مقلب قمامة ليس أمام إدارة النظافة في ستين العاصمة..
إهمال المسئولين فاضحاً أمام مقرات أعمالهم، فأكثر ما تبدو متألماً على سيارتك وتدرك أنه لم يعد بها عافية حين تقودها في الشارع الممتد أمام الإدارة العامة للمرور بالأمانة، فبمجرد الوقوف على أحد أرصفة الشوارع يبدو الإهمال جلياً بزخم من التعرجات والحفر..
هنا من عيون تلامذة المدارس يتنفس الجهل، والساحات المدرسية تنعي المعرفة بطبشورة المعلم.. لو مررت بوزارة الخدمة المدنية أو أحد مكاتبها بالمحافظات تشعر بالإحباط بأنك لن تتوظف ولو اكتسح الشيب رأسك حتى آخر شعرة في قفاه.. وأكثر ما تغلبك الحسرة لتشفي غليلك بضرب كفك على صدرك عندما تكون مظلوماً لجأ إلى الدولة ينشد الإنصاف فعاد منها منهوباً، والأكثر إيلاماً حين يخرج طفلك كالعصفور يترنم بالنشيد الوطني فيجد نفسه غارقاً في لجة من مياه الأمطار المترسبة أمام الهيئة العامة للطرق والجسور..
ما إن تأخذ صحيفتك صباحاً بغية الترويح عن نفسك ولو بإزاحة بعض كُرباتك المزدحمة تشعر أن الحقيقة غير مكتملة والوطن قضية مبتورة بتصريحات الساسة وأقلام الصحفيين ووحده الضيق مكتمل الأركان، يلقي بأثقاله على صدرك، فالسياسة تحاكي كل شيء ولو كان أمراً لا علاقة لها به، كل الأحول مسيسة حتى في تصريحات مسؤول البلدية والنشرة الجوية وأخبار الطقس..
هنا لو صافحت شيخاً أو صبياً تبرهن المصافحة على كفك براعة البطالة والفقر في إتقان زراعة الشيخوخة في كل يمني؛ إذ الفساد والعبث والعشوائية في مؤسسات الدولة ومقرات الأحزاب على حد سواء..
لو قعدت في ساحات الحرية والتغيير حيث ترى مدى قدرة الفساد على صنع ثورة، تستنتج أن المعارضة بحاجة إلى ثورة بحالها تطهرها من درن ثقافة القيادات البالية.. لو نظرت في عيني طفل أبصرت شبح الخوف في الحدقات يغتال طفولة عنونها اليأس..
ولعل قمة الحماقة أن تصفق لشرعية نظام عاجز عن توفير اسطوانة غاز لمواطني شعبه وإن كانت الدولة مصدرة لمادة الغاز، ومنتهى البلاهة هو التعامل مع التغيير من منظور القوى البالية أو الركون لشخصيات قد عاف الزمان نخالة أدمغتها ولا زالت تغالب الكحة لتهتف باسم شباب الثورة، فيما المضحك حين تتذكر انجازات وزارة الصحة فتصاب بحمى الاكتئاب وأنفلونزا الضجر.
عبد الحافظ الصمدي
ثقافة مقلوبة..! 2458