إن خلاص الإنسانية الأكبر سيكون في السمو بالإنسان، وتحسين ذاته، وإدارتها على نحو أفضل، وليس في تنمية الموارد المحدودة، والمهددة بالنفاد الكامل، إن تنمية الشخصية لا تحتاج إلى مال ولا إمكانات ولا فكر معقد، وإنما إلى الإرادة الصلبة والعزيمة القوية، ومن ثم فإن بإمكان الفقراء والمحدودين وأهل الظروف الصعبة أن يصبحوا من خلال الجهد والاهتمام الملائم أفضل ممن أوتوا بسطة في المال والجاه، لكن أبرز سماتهم الإهمال لحياتهم الروحية والعقلية والاجتماعية!.
إن أمة الإسلام تواجه اليوم ضغوطات خارجية هائلة على المستوى المعنوي والمادي، وهي إلى جانب ذلك تعيش ظروفاً معيشية صعبة، وإن أدبياتنا تعلمنا أن أفضل طريقة لمواجهة الخارج هي تدعيم الداخل وإصلاح الذات، واكتساب عادات جديدة جيدة، والسعي إلى مزيد من التضحية والتعاون والانفتاح والالتزام ونكران الذات والاقتصاد، والمحافظة على رأس المال الوطني، إلى أن تمر العاصفة، وينتهي الظرف الاستثنائي وفي هذا يقول جل وعلا: "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً" ( سورة آل عمران: ١٢٠).
إن الأمم المنتصرة والمتمكنة في الأرض، أمم حققت نصرا ً داخليا ً أولاً، وحقق كل واحد من أبنائها نصراً على صعيده الشخصي في جوانب عديدة من حياته، وإن التنمية الجادة للشخصية عبارة عن مقاومة الإنسان لرغباته وعاداته وأهوائه، وعبارة عن صقل لجوانب ذاته المختلفة، وهذا كله يتطلب وجود دوافع وحوافز عديدة، حتى يتمكن المرء من القيام بكل ذلك، ولا تسمح لنا المساحة المتاحة بأن نفيض في توضيح تلك الشروط، فلنذكرها على سبيل الإجمال، ومنها:
1. وجود هدف أعلى يسمو فوق المصالح والغايات الدنيوية والمادية، ولا أظن أن المسلم يواجه مشكلة في تحديد الهدف الأكبر لوجوده، إلا أن الغرق في تفاصيل الحياة الكثيرة، يجعل إحساسنا بهدفنا الأكبر رتيباً أو ضعيفاً، مما يجعل إثارة الهدف للحماسة، وتوليده للطاقة التغييرية لا تصل إلى المستوى المجدي لتنمية الذات.
2. وجود قناعة بضرورة التغيير، حيث أن كثيراً من الناس يظن أن ما هو فيه جيد ومقبول، أو أنه على كل حال ليس الأسوأ، وبعضهم يعتقد أن ظروفه سيئة، وإمكاناته محدودة، ولذلك فإن ما هو فيه لا يمكن تغييره!.. والحقيقة أن المرء حين يتطلع إلى أن يتفوق على ذاته، فإنه سوف يجد أن إمكانات التحسين أمامه مفتوحة، مهما كانت ظروفه صعبة وغير مشجعة.
3. الشعور بالمسؤولية شرط مهم لتحسين الذات، وحين يشعر المرء بجسامة الأمانة المنوطة به، تنفتح أمامه آفاق لا حدود لها للمبادرة للقيام بشيء ما ، وأنه يرنو دائماً إلى اللحظة التي سيقف فيها بين يدي الله جل وعلا ويسأله عما كان منه، إن علينا أن نوقن أن بزوغ الشخصية الفذة، لا يتم إلا من خلال شعور قوي بالمسؤولية، وأن التقزم الذي نشاهده اليوم في كثير من الناس ما هو إلا وليد تبلد الإحساس بالمسؤولية عن أي شيء!!.
4. الإرادة الصلبة شرط كل تغيير، وشرط كل ثبات واستقامة، وفي هذا السياق فإن الرياضي، يعطينا نموذجاً طيباً في إرادة الاستمرار، فالتدريب يكسب المرء لياقة وقوة في العضلات؛ وحتى لا يفقد الرياضي لياقته، أو تترهل عضلاته، فإن عليه مواصلة التدريب.. وهكذا فإن تنمية الشخصية ليست سوى الاستمرار في اكتساب عادات جديدة، والتخلص من عادات سيئة، وليس من اليسير الوفاء بالالتزامات كافة في المنشط والمكره، حتى الالتزام الجزئي فإنه يحتاج إلى إرادة لا تلين.
إن من الممكن القول: إن ما يجب تنميته في شخصية المرء ينقسم إلى قسمين: قسم خاص بتنمية الخصائص الفردية، وقسم يتناول تنمية العلاقات الاجتماعية مع الآخرين، وجعلها تسير في المسار الصحيح، وسنذكر بعض المبادئ في كل منهما على سبيل لفت الانتباه، لا على سبيل الحصر، وباختصار شديد:
أ- تنمية الشخصية على الصعيد الفردي:
1. التمحور حول مبدأ: إذا أراد المرء أن يعيش وفق مبادئه، وأراد إلى جانب ذلك أن يحقق مصالحه إلى الحد الأقصى، فإنه بذلك يحاول الجمع بين نقيضين، وإنه في كثير من الأحيان لا بد من التضحية بأحدهما، حتى يستقيم له أمر الآخر، وقد أثبتت المبادئ أنها قادرة على أن تكرر الانتصار المرة تلو المرة، وأن الذي يخسر مبادئه يخسر ذاته، ومن يخسر ذاته، لا يصح أن يقال: إنه كسب بعد ذلك أي شيء!، بعض الناس يتمحور حول سمعته، وبعضهم حول عمله أو زوجه أو أسرته.. إن التمسك بالمبادئ قد يؤدي إلى بعض الخسائر في المدى القريب، لكنه سفينة نوح على المدى البعيد(أنظر حول ميزات التمحور حول المبدأ العادات السبع الشخصية. والملاحظ أن لدى الإنسان قابلية عجيبة للانجذاب نحو محور من المحاور، وترك باقيها غفلاً دون أدنى اهتمام، ليس من النادر أن نرى من يصرف كل اهتمامه إلى الرياضة دون أن يقرأ كتاباً واحداً في الشهر أو السنة، ومن يشتغل بالقضايا الفكرية دون أن يصرف أي جهد للعناية ببعده الروحي أو البدني وهكذا... حتى لا نفقد الصورة الكلية للوضعية التي ينبغي أن نكون عليها، يجب أن نقوم بأمرين:
أ. أن ننظر دائماً إلى خارج ذواتنا من أجل المقارنة، ومن أجل أن نستشرف ما نحن عليه عن كثب؛ إذ أن الرؤية تتشوه عندما نعزل ذواتنا وأوضاعنا عن السياق الاجتماعي العام.
ب. أن ننظر دائماًً إلى أهدافنا الكلية، ومدى خدمة بنائنا لأنفسنا في تحقيق تلك الأهداف.
3. لنقطع على أنفسنا عهوداً صغيرة، ولنحاول الالتزام بها: أن الأعمال الطيبة حين تتراكم تجعل من الإنسان رجلاً عظيماً، وأن قطرات الماء تشكل في النهاية بحراً؛ كما تشكل ذرات الرمل جبلاً!، وقد وجدنا من خلال التجربة أن أفضل السبل لصقل الشخصية هو أن يلتزم المرء بعادات وسلوكيات محددة صغيرة، كأن يقطع المرء على نفسه أن يقرأ في اليوم جزءاً من القرآن، أو يمشي نصف ساعة مهما كانت الظروف والأجواء، وكأن يستيقظ مرة في الأسبوع قبل الفجر وهكذا.. ليكن الالتزام ضمن الطاقة، وفي نطاق الظروف المتاحة، لكن إذا التزم المرء بشيء فليكن التزامه صارما. وفي الحديث: وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه( أخرجه الشيخان) ٤- لنعمل ما هو ممكن الآن، ولا ننتظر تحسن الظروف: علينا ومن ثم فإن على كل واحد بنا أن يتحمل قسطا من المسؤولية عن تزيت الحراك الاجتماعي، وتدعيم روح التفاوض والتفاهم بين الناس. وهذه بعض النقاط التي نعتقد أنها تساهم في ذلك: - تحسين الذات أولاً: في داخل كل منا قوة، تدفعه نحو الخارج باستمرار؛ فنحن نطلب من الآخرين أن يفهمونا بشكل جيد، وأن يعذرونا، ويقدروا ظروفنا.. وقليل أولئك الذين يطلبون هذا من أنفسهم!، وأن الأساس العميق للعلاقات الجيدة، يتمثل في الجاذبية والإعجاب، وكل علاقة تقوم على غير هذا تكون إما شكلية وإما مؤقتة.
وأساس الجاذبية هو التميز، والشخص الذي يثير الإعجاب هو الذي اجتمعت فيه صفات، لا تجدها في أكثر الناس إلا متفرقة، إن الأب الذي يريد من ابنه أن يكون باراً، مطالب بأن يكون أبا ً عطوفاً أولاً.. وعلى الجار الذي يريد من جيرانه أن يقدموا له العون، أن يبذل لهم قبل ذلك الاهتمام.
- تأهيل النفس للعمل ضمن فريق: نعيش اليوم في عالم يزداد الاعتماد فيه على المجموعات في إنجاز الأعمال، حيث أن تعقد المهمات يقتضي أن يقوم بالعمل الواحد فريق متناسق متفاهم.
× كاتب مصري دكتور في الحقوق وخبير في القانون العام
د. عادل عامر
حدود العلاقات الاجتماعية والمساحة التي يجب أن يحتفظ بها كل شخص 2584