وجدتني يوم أمس أتحدث باستمتاع عن المدينة التي ولدت فيها بشرق السودان، والتي درست فيها مرحلة الأساس كما لو كانت باريس أو نيويورك، كدت أقول أنها الجنة بعينها، لكن توقفت، كذلك عندما أتحدث عن صنعاء الرائعة والتي أعتبرها مدينتي التي لا تضاهيها مدينة في الكون، كوني قضيت فيها جلّ عمري ومنحتني الكثير، أحببتها أكثر من قريتي "خاو" التابعة ليريم، لكن خاو فيها بعض الذكريات الطفولية القصيرة.. هناك أشم رائحة أبي و"مداعته" العتيقة في ركن الغرفة الضيقة في بيتنا الصغير.. المكان له وقعه على النفس والروح معاً، فكلما زرت البيت اخترت ذاك الركن دون وعي وكأني استرجع ذكريات مضى عليها زمان، رغم اختفاء "المداعة" من البيت، حيث لا أحد "يمدع" ولا أحد "يشيش"، إلا أن رائحة التمباك تتسرب إلى مساماتي في لحظات تطوف بها ذاكرتي عنوة، لدرجة أنني لا أحس بوجود الآخرين، قد يكون الغيب حلو إنما الماضي أحلى في ظل ما نعيشه الآن.
ما أود قوله هو أن لدي أحساساً كبيراً بالمكان وتشغلني تفاصيل الأمكنة وبالتالي رائحتها وارتباطها بأناس معينين، بمعنى أني عندما أزور مدينة ما، أتفحصها جيداً وذاكرتي البصرية إلى حد ما جيدة، علاقة الناس بالمكان، الرائحة بالمكاتب، الجو، العمارة، الشوارع، الطفولة، والاخضرار وغيره.
صنعاء كمدينة لها عشق خاص حتى عندما نسافر، تسافر معنا لا تسمح للمدن الأخرى أن تسكننا أو تتسرب فينا، عصية صنعاء وشقية إذا ما أحببتها تملكتك، وفرضت ذاتها عليك حتى أن كل المدن بثرائها ونعيمها لا تساوي شيئاً أمام صنعاء في عيون عشاقها، تشعر بالوحشة وأنت تفارق صنعاء ولو لمدة قصيرة، وتعود وأنت متلهف إليها لتملأ عينيك بتفاصيلها الجميلة، رغم المظاهر السيئة من أوساخ وقمامة وسلوكيات لم تعد موجودة إلا عندنا كالبصق على الشوارع و"التمخط" أمام الناس وتفل القات على الرصيف، وقضاء الحاجة تحت السيارات وفي الأزقة الصغيرة والشتائم والألفاظ غير اللائقة و....إلخ، إلا أن صنعاء اليمن ثانية، وربنا يخلي الأستاذ/ عبدالقادر هلال - أمين العاصمة الجديد.
الأمكنة عندما ترتبط بها يكون لها مكان خاص في الذاكرة، وإن بعدت من المكان تظل تتابع أخبار أهله وأحواله، تراودك فكرة الزيارة ولو لأيام معدودة، وإذا شممت رائحة ذاك المكان ذكرت الماضي حلواً كان أو مراً، حتى موسيقى المكان من أصوات مختلفة للناس والحيوانات، هو عزف خاص بالمكان يرتبط به دون غيره.
ما زلت أحدث عن مدينتين تسكناني "صنعاء وكسلا بشرق السودان" والعلاقة الحميمة بيني وبينهما تجعلني أفكر فيهما دوماً، كيف تكون صنعاء أنظف المدن؟، كيف تنافس سياحياً؟، ومتى تكون كسلا المدينة السياحية الأولى في السودان وكيف تتطور زراعياً في إنتاج الموالح التي اشتهت بها؟ وكيف وكيف؟!.
انتقال سكان صنعاء من بيت إلى آخر ومن شقة إلى أخرى لا يسمح بخلق علاقة حميمة بهذه المدينة لدى كثير من الناس، كذلك سلوكيات بعض المؤجرين تشوه علاقة صنعاء بساكنيها، فمتى نطبع العلاقة بين كل سكان صنعاء وصنعاء المدينة الرائعة المعطاءة وكيف ومتى نغني نشيد الحب لصنعاء؟!.
محاسن الحواتي
العلاقة بالمكان.. 2265