من الأخطاء الفظيعة والقاتلة للحوار ولعملية الانتقال عامة, هي ترك ما بقي من شكل الدولة ينهار ويسقط تحت وطأة العبث والتخريب والإرهاب والانفلات المريع، نعم لا بديل للبلاد غير هذا الانتقال السياسي المزمن، ومع أهميته وجدواه لا ينبغي عزل مساره عن سياق الدولة ومؤسساتها وفاعليتها الآخذة بالانحسار والانكماش والتردي ولدرجة مقلقة مفزعة منذرة بكارثة أكبر وأعمق وأشمل من كارثة الوهن والانقسام الذي يعاني منه المجتمع والجيش والنظام السياسي الانتقالي.
اغتيالات وتخريب للاقتصاد والموارد والقدرات, إرهاب منظم لا يتورع عن مهاجمة ضباط وجند الدولة وفي ميدان السبعين، حرابة وخطف للأجانب والضباط والقيادات وحتى أعضاء مؤتمر الحوار ،عبث مدمر وممنهج لا يقتصر على منشأة أو مؤسسة أو محافظة ، اختلاق أزمات ومشكلات داخلية وخارجية ، تضليل إعلامي موجه ومدعوم من خزينة الدولة وهدفه الأول والأخير إفشال الرئاسة الانتقالية وحكومة الوفاق ومؤتمر الحوار والهيكلة وقانون العدالة والمصالحة وحتى مسألة وقف انطفاءات الكهرباء.
فكل هذه الأشياء للأسف يتم التغافل عنها وإهمالها بحجة إنجاح مؤتمر الحوار، وحفظ كينونته وقواه من التفكك والإخفاق الذي قد ينشأ نتيجة لمزامنة الحوار بإجراءات جادة وحقيقية من شأنها استعادة هيبة ونفوذ سلطة الدولة ورفع كفاءة مؤسساتها وسلطاتها ودورها الذي بات اليوم مفقوداً وخاملاً؛ إلا من ناحية الأنفاق الباذخ والمهدر لمئات المليارات، وعلى جيوش من الموظفين البيروقراطيين والمسئولين الفاسدين ، وعلى منشآت وخدمات عاطلة باطلة بائسة فاشلة عاجزة لا تستحق أكثر من إعلان بإغلاقها ووقف الإنفاق عليها .
كيف سينجح مؤتمر الحوار؟ وكيف سيتم التحول من دولة فاشلة قابعة في ذيل قائمة عشر دول فاشلة, إلى دولة جديدة ناجحة تزاحم الدول الصاعدة المرتقية لسلم التطور والاستقرار؟.
حقيقة لا أعلم كيف ستمضي سفينة الحوار الى شاطئ النجاة والأمان, فيما درب الحوار أشبه بحقل ألغام شائك يحول دون عبوره بديناميكية وسلام، إذ أنه ومع كل حركة يراد بها التحكم في العملية الانتقالية وضبط بوصلة مسارها, أي أن الحوار والهيكلة والوفاق عامة يلف ويدور وينحدر في ذات الدائرة المغلقة المحطمة لكل جهد وفكرة من شأنها استعادة الأمل والثقة الى نفوس وقبلها بالطبع إلى واقع معاش ويشاهد فيه سلطة الدولة تزول وتخور في عباب معتم مهلك.
الدولة وبسط نفوذها وقوتها وسيادتها ونظامها أولى وأهم من كل العملية السياسية القائمة ، فدون قيام الدولة بواجباتها ومسئولياتها – مهما بدت ناقصة وقليلة – يستحيل نجاح الحوار والهيكلة والانتخابات والدستور, كما ويصير الكلام عن دولة مدنية حديثة ضرباً من الوهم والكذب ، ففي كل الأحوال عملية الانتقال يجب أن لا تكون على حساب الدولة الموجودة، فأياً كانت مساوئ هذه الدولة وأياً كان شكلها ووضعها بائساً ومنهكاً وهشاً؛ لكنها ستبقى المنطلق والحاضن والمركز والمحور الأساس الضامن لصيرورة واستمرار كل التفاعلات السياسية والمجتمعية الحاصلة اليوم وغداً.
المطلوب من الرئاسة والحكومة فعل الكثير لهذه الدولة الهشة الرخوة ، فليس هنالك ما هو أسوأ وأخطر من فقدان الإنسان لثقته بسلطة الدولة ، فكما يقول حكيم الصين "كونفوشيوس" بان ثقة المواطن بحكومته أولى للحكام من العتاد والغذاء، فالقوة والخبز يمكن الاستغناء عنهما أحياناً؛ إما الثقة فيعد خسارتها نهاية لمشروعية أية حكومة تدعي تمثيلها لمجتمعها.
على هذه القاعدة يجب تفعيل مؤسسات الدولة بحيث يمكن تعزيز وتطوير هذه المؤسسات الخاملة ورفع كفاءتها ودورها وبما يخدم وجود الدولة ووظيفتها ومسئولياتها إزاء المرحلة الراهنة التي يراد فيها ابتسار الدولة بدور الموجه المنتظر لنتائج الحوار، فكون الدولة هنا هي المحرك والموجة لا يعني شل حركتها وفاعليتها وحضورها في شتى مناحي الحياة الاقتصادية والمجتمعية؛ بل يجب أن يكون دورها ونفوذها مقدمة على الحوار والدستور والهيكلة والمصالحة وحتى التوحد والتجزئة اللذين لا معنى لهما او قيمة من دون وجود هذه المسماة الدولة .
الدولة هي من يفرض القانون والنظام على الجميع، وهي ذاتها بمقدورها بسط سلطانها ونفوذها واحترامها وهيبتها على كامل ترابها وسيادتها ، فأي إخلال أو تنازل أو تفريط لا يعني سوى هد وزعزعة لبنيان هذه الدولة ، ففي كافة الظروف الدولة ومهما كان هيكلها ضعيفاً ومختلاً ؛ إلا أنها تبقى دولة يستحيل قهرها وهزيمتها من جماعة ، أو قبيلة ، أو طائفة ، أو منطقة ،لكنها وحين تتخلى ولو جزئياً عن وظيفتها المعتادة في كافة بقاع البسيطة ؛ فهنا فقط تكون قد فتحت أبواب جهنم مشرعة لمن ينازعها ويقوض دورها وسلطانها.
ما حدث في ثلاثة عقود ونيف من حكم الرئيس المخلوع صالح هو أنه حكم البلاد ليس بالدولة وقوتها وسلطتها وإنما بتفكيك أوصال هذه الدولة وإضعافها وتوزيع قوتها وسلطانها على القبيلة والعائلة فكانت الحصيلة بكل تأكيد كارثية ومكلفة على اليمنيين الذين يشاهدون اليوم دولتهم خائرة وهنة لا تقوى على ردع مخرب أو تجبر حاكم معتوه أسقطته ثورة كي يتوقف عن عبثه وتصرفاته المجنونة.
خلاصة الكلام.. اليمنيون يستلزمهم دولة ونظام، هذه الدولة والنظام بحاجة لإرادة سياسية فولاذية لا يكسرها نافذ ومخرب أو فاسد ولص ومهرب، لم أقل بعد أننا شعب لا ينفع معه غير الصميل وفق تعبير عامة الناس! ومع كوني مهذباً وملتزماً بقيافة الألفاظ؛ إلا أن ذلك لا يعني نكران حقيقة ماضية وماثلة وتتعلق بمقاومة همجية لكل ما يعزز ويؤكد انتمائنا للمجتمعات العصرية المدنية.
نعم علينا قراءة التاريخ جيداً كيما ندرك واقعنا البائس الذي تحطمت فوق جباله وكثبانه كل آمال وجهود العثمانيين ، وكيف أن القبائل أحالت أول سكة حديد شرع بمدها الأتراك في سهول اليمن إلى فؤوس ومناجل وأدوات حراثة وقتال؟ كيف أن بريطانيا لم ترضخ قبائل الجنوب سوى بالحديد والنار والإكراه؟ كيف أن دولة الجنوب المستقلة لم تبسط سيادتها إلا بالدم والقرابين والجبروت والقوة ؟ كيف أن ثلاث سنوات ويزيد من حكم الرئيس الشهيد ابراهيم الحمدي قدر لها فعل ما لم يستطع فعله جميع الرؤساء قبله وبعده؟.