لا شك أن اليمن تعيش مرحلة حساسة وخطرة إن صح التعبير يتمثل في مرحلة التحول السياسي وهو بمثابة المخاض العسير لحمل يستمر لستة اشهر فقط والرهان على نجاة الجنين بين احتمالين الموت أو الحياة, وكذلك الأمر بالنسبة للأم.
ومن أجل أن نوضح معنى التحول السياسي أو التحول الديموقراطي علينا أن نعرف أولاً ماذا تعني الثورة؟, فالثورة الكاملة تعني الإطاحة بنظام سلطوي جائر بجميع مؤسساته بدءاً بالقضاء ومررواً بالأمن وانتهاء بالجيش وإعادة بناء هذه المؤسسات بطرق ثورية جديدة تعمل على تحقيق أهداف الثورة وتنصف الشعوب من جور النظام الذي ثارت صده.. أما التحول السياسي أو الديمقراطي فهو تحول النظام السابق من سلطوي إلى ديمقراطي بعد الإطاحة بجيله الأول والعمل مع جيله الثاني في التحول من النظام السلطوي أو الحكومة المركزية إلى حكومة مدنية تحظى بالقبول الشعبي.
وبما أن القيام بثورة قد لا يأتي بنظام ديمقراطي ولا يعني النجاح للثورة, إذ أن سقوط الأنظمة السلطوية في عدد من الدول في أمريكا اللاتينية وأوروبا وحتى في العالم العربي عقبها حروب أهلية وانهيار دول، فإن التحول السياسي قد يكون أشد تعقيداً, حيث سيصبح العمل مع الشركاء في الجيل الثاني من النظام الاستبدادي مليئاً بالتعقيدات والاختلافات من أجل الوصول إلى رؤية لصياغة الأهداف الجديدة للتحول إلى الديمقراطية.
ويمكن تناول التجربة الرومانية والبلغارية كمثال على فشل التحول الديمقراطي.. في عام 1989 بدأت الثورة الرومانية باعتصامات ليست كبيرة احتجاجاً على اعتقال النظام لأحد القساوسة وسرعان ما تحولت الاعتصامات إلى احتجاجات عارمة عمت معظم مدن رومانيا على رأسها العاصمة بوخارست, حيث خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين ضد نظام تشاتشيسكو الشيوعي والشمولي وبعد أسبوع فقط من الاحتجاجات تم القبض على تشاتشيسكو وزجته وتم إعدامهما على الفور, وتم بعد ذلك القبض على رؤوس النظام ومحاكمتهم ومن ثم سجنهم..
لكن انتكست الثورة في رومانيا إثر قيام الجيل الثاني من النظام الشمولي بمكر سياسي مستخدماً الإعلام كوسيلة قوية للوصول إلى الحكم مرة أخرى عبر الانتخابات, حيث فازوا بـنحو 70 في المائة من أصوات الناخبين.. وبعد مضي 23 عاماً على الثورة في رومانيا لم يحصل الرومانيون حتى على أمل في التحول السياسي حيث أصبحت الحكومة هشة بعد إعادة تمحور النظام تحت قبضة أحد رجال تشاتسيسكو ولم تظهر معارضة قوية وأصبح دور البرلمان هشاً أمام شبه غياب للمؤسسات, وينطبق هذا الواقع على بلغاريا التي أصبح حالها يشبه كثيراً من الدول التي لم تقم بثورات من الأًصل..
لكن على عكس رومانيا وبلغاريا، نجحت الثورات في كل من بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ويوغسلافيا في صنع تحول ديموقراطي بني على أنظمة ديموقراطية تحكمه المؤسسات, ولم يكن هناك فارق كبير في التوقيت الزمني في الثورات التي اندلعت في هذه البلدان وثورتي رومانيا وبلغاريا, فقد بدأت الثورة البولندية في عام 1988 إثر قيام حركة تضامن في البلاد في حشد الناس لاحتجاج سلمي والنزول إلى الشوارع والقيام بإضرابات سلمية أجبرت النظام الشيوعي على تقديم تنازلات أفضت إلى ما أطلق عليه بعد ذلك تحولا ديمقراطياً.. وبعد سلسلة من الإجراءات والتدابير الحكيمة أصبح هذا التحول مثالاً ناجحاً يحتذى به في العالم, وانعكس هذا النجاح في تشيكوسلوفاكيا والمجر ويوغسلافيا رغم مصاحبة الاحتجاجات لأعمال عنف في هذه الدول, والفضل في سقوط هذه الأنظمة يعود لانهيار الشيوعية في روسيا والصين وفرنسا.
وبمقارنة هاتين الحالتين على ما يجري في اليمن نجد أن هناك اختلافات وتشابهات في الحالة اليمنية وكلا التجربتين الأوروبيتين, حيث لا نستطيع القول أن النظام في اليمن، خصوصاً عقب الوحدة اليمنية، مطابق لحد كبير لنظام رومانيا ولا يشبه الأنظمة الشمولية في بولندا, لكن هناك تشابه كبير إن لم نقل تطابقاً في الحركات الاحتجاجية التي جرت في أوروبا الشرقية أو الغربية ضد الأنظمة الحاكمة.
لكن علينا أن نقر أنه ظهرت مؤشرات لتحول ديمقراطي في اليمن قبل الاحتجاجات الأخيرة التي أدت إلى سقوط رأس النظام في اليمن.. في أعقاب تحقيق الوحدة عام 1990 ظهر نوع من أنواع بوادر لديمقراطية هشة كشرط من شروط إقامة الوحدة بين نظامين مختلفين تماماً, لكن حدثت انتكاسة لهذه البدايات وتبقى ملامح لضباب ديمقراطي.. لكن لا يستطيع أحد أن ينكر أن علي عبدالله صالح كان يعطي مساحة إعلامية لمعارضيه في الانتخابات لدرجة تصل إلى سماحه للتلفزيون الرسمي بإعطاء نفس المساحة الزمنية التي تعطى له لبث خطاباتهم وبرامجهم السياسية, لكنه كان يستخدم المال العام للتأثير على الجمهور وشراء الولاءات للفوز في الانتخابات في النهاية.
وما يجري في الوقت الراهن في اليمن يشبه لحد كبير ما حدث في كل من رومانيا وبولندا, مقارنة برومانيا، الجيل الثاني للنظام في اليمن يعتبر في الوقت الحالي أقوى من الجيل الثاني في رومانيا عقب الثورة مباشرة وأصبح يمارس دوره في إعادة السيطرة على المشهد السياسي منذ وقت مبكر مستخدماً المال الذي اقتطعه من خزينة الشعب, بل وأعطي حصانة للتمتع بهذا المال وعدم محاسبة أركان النظام في جرائم أخرى, فهو الآن يعيد الكرة في شراء الولاءات بهذا المال ويعد للخوض للانتخابات القادمة مستخدماً كل الوسائل حتى التي تضر بمصالح الشعب بشكل مباشر.
ومقارنة ببولندا، هناك خطوات حكيمة مثل انعقاد الحوار الوطني الذي من خلاله يجري لإعداد دستور جديد ينظم عمل الدولة في المرحلة القادمة وبناء مؤسسي وحل المشاكل الكبيرة في اليمن والعمل على مصالحة وطنية لتجاوز أي أعمال انتقامية في المستقبل قد تؤدي لا سمح الله إلى حروب.
وفي كل الحالات في اليمن وأوروبا حاولت الأنظمة قمع الشعوب وإخماد ثورتها, لكنها فشلت أمام الغضب الشعبي الغاضب.. لكن خسر اليمن الكثير من ثواره حيث وصل عدد القتلى إلى أكثر من ألفي شخص.. لكن هناك تحديات أخرى أمام الشعب اليمني لم تكن موجودة في دول أوروبا سواء تلك التي نجحت أو التي فشلت في التحول الديمقراطي, حيث تعد مطالب فصل جنوب اليمن عن شماله أكبر التحديات التي قد تدخل اليمن في نفق أشد ظلمة مما هو في الدول الأوروبية التي فشلت في التحول السياسي, خصوصاً إذا ما تصاعدت حدة المطالب لانسحاب ممثلي جنوب اليمن من الحوار الوطني.. تلي هذه المعضلة مشكلة الحوثيين التي تتمثل في بروز جماعة أو فصيل يمني مسلح إن صح التعبير يعمل كامتداد لدولة خارجية تعمل على زعزعة الوطن أو إيجاد كيان قوي مثل حزب الله ليكون بمثابة دولة داخل دولة.
هناك أيضاً ميزة غريبة، لكنها جيدة، للثورة اليمنية حيث أتت برئيس من النظام الذي ثار الشعب ضده لكنه يحظى بدعم من الشعب والمعارضة أكثر من الحزب الذي أتى منه, لأن كل ذي لب يدرك أن هذا الرئيس ليس أمامه سوى العمل على أمن واستقرار اليمن والخروج من أزمته, حيث أن قدره هو الذي وضعه في هكذا وضع يبعث الطمأنينة لمن يريد الخروج من عنق الزجاجة.
عموماً يمكن القول أن التحول السياسي نجح في أوروبا الشرقية وفشل في أوروبا الغربية ولا زال ما بين النجاح والفشل في اليمن والفرص متساوية أمام الاحتمالين.. لكن نراهن على الشعب اليمني أن يتمسك بما خرج به من هذه المرحلة مثل الرئيس المنتخب والشرفاء من الجيش والالتفاف نحو رئيسه ودعمه ونبذ القوى التي ثار ضدها وعدم إتباع أي مشروع له روابط خارجية من أجل ترجيح الاحتمال الإيجابي والوصول إلى تحول سياسي وديمقراطي يحتذى به في المنطقة العربية برمتها.
محمود السامعي
ما هو مصير التحول السياسي في اليمن؟ 2102