لأن الأولى ثورة فقد استحقت بكل جدارة لقب أعظم ثورات الإنسانية وبأنها تمثل مدرسة تستحق أن تدرس للأجيال القادمة لنبلها وسلميتها وأخلاقها فلم تسجل حالة اعتداء على حرية شخص، ولا واقعه تحرش أو موقف مخل بالشرف طوال فترة الثورة ولا اعتداء على ممتلكات أحد أو مواجهة رجال الأمن والجيش.
إنما كانت ترفع شعارات تطالب بالحرية والمساواة والديمقراطية والمواطنة وأن يتم بناء دولة مصرية حديثة تعيد الدور الريادي لمصر إقليميا كما كانت وتكفل حرية المشاركة السياسية والرأي والتعبير وإنشاء الأحزاب السياسية بعد أن كانت كل تلك الحقوق مصادرة طيلة حكم مبارك لأكثر من 30 عاما.
ومن هنا اكتسبت الثورة المصرية مشروعيتها وأصبحت أمل المصريين في الانتقال إلى عهد جديد خال من حكم العسكر وطبقة الأغنياء والمتخمين ورجال الأعمال الذين أثروا على حساب الشعب وقوته وعرق جبين أبنائه.
في الجهة المقابلة يظهر انقلاب 30 يونيو العسكري المرتب له بشكل مسبق للانقضاض على كل مكتسبات ثورة 25 يناير وإجهاض الديمقراطية الوليدة ونسف كل القيم والمبادئ السامية التي رسختها ثورة 25 يناير عن المصريين ويجري تسويق الانقلاب من قبل قادته وكتابه المأجورين على أنها ثورة لتصحيح مسار ثورة 25 يناير لطمس معالم وتاريخ ومكتسبات ثورة 25 يناير والتي آذنت بانتهاء حكم العسكر بإجراء أول انتخابات ديمقراطية نزيهة؟
ولأنه انقلاب عسكري فقد كانت أولى قراراته مصادرة الشرعية للرئيس المنتخب وأصوات الشعب التي منحته في الانتخابات بعزله وتغييبه قسريا في مكان مجهول في جريمة لا إنسانية لم تدينه أي من قوى المجتمع الدولي سوى بيانات هزيلة لا ترقى لأن تشكل موقفا رسميا، وتم السيطرة على السلطة من جديد بقوة الجيش وتعيين رئيس مؤقت وتعطيل العمل بالدستور وتدشين الانقلاب بحملة قمع للحريات وضيق بالرأي والرأي الآخر بإغلاق أكثر من 10 قنوات فضائية تمثل اتجاهات إسلامية مختلفة لم يجرؤ نظام مبارك على إغلاقها ولكن سلطات الانقلاب تجرأت وفعلتها، ومارست حملة اعتقالات لرموز تيارات سياسية إسلامية خارج نطاق القانون والدستور، وقمع المتظاهرين بالقوة وارتكاب مجازر وحشية كمجزرة الساجدين أمام مقر قيادة الحرس الجمهوري، وميدان رمسيس، وقتل النساء المصريات الثائرات في المنصورة واعتقال للمئات من مؤيدي شرعية الرئيس المنتخب وتصفية العديد من الضباط الرافضين للانقلاب على الشرعية..
وظهرت الكثير من الانتكاسات الأخلاقية والقيمية المصاحبة للانقلاب بإغلاق معبر رفح مع قطاع غزة وتدمير الأنفاق التي تمثل نقطة تزويد الأغذية والدواء لأطفال غزة المحاصرين، والتحريض على اللاجئين السوريين في مصر وتهديدهم، ومنع دخول الفلسطينيين والسوريين واليمنيين إلى مصر إلا بتأشيرات مسبقة، وظهرت دعوات من إعلاميين وكتاب يحرضون على القتل وسفك الدماء كتوفيق عكاشة ومحمد حسنين هيكل، من على قنوات الإعلام الرسمي المصري، عاد نظام مبارك بشكل شبه كامل وأقوى مما كان عليه واستعدادات لإطلاق سراحه من السجن وتبرئتة من تهم قتل المتظاهرين في ثورة 25 يناير وتعيين 7 وزراء من رجال مبارك في الحكومة، ولا زال أمام المصريين الكثير من مفاجآت الانقلابيين بأنهم على موعد مع الكثير من التضحيات التي يتوجب عليهم دفعها بعد دخول مليارات دول الخليج لمباركة الانقلاب..
ويبدو أن مصر ورجالها أمام مرحلة مخاض مصيري وفاتورة باهظة ينبغي عليهم دفعها لاستعادة ثورة 25 يناير ومكتسباتها ولنا عبرة بالخسائر والتضحيات التي صاحبت الانقلابات العسكرية في تركيا على القيادة المنتخبة هناك التي وقعت خلال الأعوام : 1960 م ، 1971م، 1980م, حيث بلغت فاتورة حكم الجنرال الانقلابي كنعان أفرن اعتقال 650.000 شخص، ومحاكمة 230.000 شخص، و517 حكما بالإعدام، و299 حالة وفاة بسبب التعذيب وظروف السجن السيئة.
وكذلك التجربة الجزائرية المريرة بعد انقلاب العسكر على نتيجة الانتخابات التي أدت إلى فوز الإسلاميين هناك بأغلبية كاسحة كان الثمن مقتل أكثر من 200 ألف جزائري خلال فترة التسعينات، وفي السودان أشعل الجيش حربا أهلية غرب السودان راح ضحيته الآلاف، وفي باكستان تحولت الدولة إلى دولة فاشلة بعد سيطرة العسكر على الحكم هناك.
ومع كل مسيرات الرفض للانقلاب العسكري والحشود المليونية التي تكبر كل يوم وتواجه بالعنف والقمع كل ذلك يثبت عدم سماح الشعب المصري بتمرير الانقلاب وبأنه على استعداد لدفع الثمن أي كان لاستعادة الشرعية من أيدي العسكر ولكن هل يستوعب قادة الانقلاب المصير الذي يقودون مصر إليه والتي قد تهدد الجيش نفسه بالانقسام ومصر بالتفتت وإحياء النزاعات الطائفية وإعادة مصر للوراء 60 عاما على أقل تقدير.
يوسف الدعاس
المعايير القيمية بين ثورة 25 يناير وانقلاب 30 يونيو 1594