مفهوم التألق في الحياة مفهوم واسع وكبير ويأخذ كثيراً من الأبعاد الجمالية التي تأخذ النفوس إلى آفاق رحبة من السمو والرقي، والسير قدماً نحو كثير من المدارك الصعبة التي لن يتجاوز معتركها، أو يختصر المرقى إليها إلى من كان الاستثناء بين الناس، ومنح حياته التألق من خلال الممارسة السوية، والأخلاق القيمية، والعيش في ظلال من المسئولية التي غابت عن حياتنا وافتقدناها كثيرا في واقعنا حتى أصبحت أندر من الكبريت الأحمر
إن مما يجب علينا كأفراد الإيمان بأنه عندما تتوهج في القلب إشراقات المسئولية وتنغمر الروح في لُجَجِ الإيجابية ، وتنبعث النفوس بالخير ، عندها فقط ينبعث الخير فينا، وتتجلى فينا معاني المسئولية في أبهى ولاء ، وأسمى معاهدة يمكن لها أن تنعقد بين النفس والعقل ، فتنهض الهمة ، وينبعث الشعور من" قمقه"، ويتدارك كل منا ما أضاع من حق نفسه، وما بدد من سوالف الأيام، في غفلة عن حقيقة الوجود، وسهو عن المبتدأ والمنتهى وعاقبة الورود.
وتخبرنا الأيام وتثبت لنا شواهد الحياة أن دنيانا تتألق عندما يورق الخير بأزاهير التفاعل البناء مع الوطن الغالي وأبنائه الكرام ، وتسري الإرادة متحررة من قيود اللامسئولية ، وتنطلق فيها نداءات التفكير الإيجابي الذي اخْتُصَّ به أصحاب المسئولية ، وتتحرر من وهدة الضلال وحمأة الغي وأغلال الهوى إلى هامش رحب وفسيح من الشوق لأهل الإيجابية الذين تصان بهم الاوطان ، وبتألقهم يزداد الوطن ألقا إلى ألقهم ، وعند هذه النقطة فإنني لا اعتقد أن فردا إيجابيا يخدم واقع الناس من حوله نهضة لوطنه وارتقاءً ببلده لا يعد في نظر الناس بأنه من أروع الأفراد وأحلاهم طراوة على النفس ، وأزكاهم فكرا عاطراً على روح المجتمع ،
وعندما يتفلت الإنسان عن كل ذي صلة بالإيجابية المتألقة فإنه يغترب في وطنه، ولن يكتب له التفرد بين أهله وعشيرته، بل ستضيق نفسه من واقع هو من صنعه، ولن تتحفز روحه للتخلص من آلام وحدته وسلبيته ، وأوجاع بعده عن هموم موطنه ، وعماء تيهه وضبابية فكره واضطراب تصوره, وسوداوية الفوضى الشاغلة المتكاثرة المتراكمة تراكمَ ظُلَم الليل البهيم
ولعلي أقف مع مقالنا لهذا الأسبوع مع واحدة من أشهر قصص التاريخ التي حكاها لنا ويبين من خلاله عظمة المسئولية عند بعض افراد المجتمع في تألق واضح لأفراد رأوا أن من المسئولية أن يرتفعوا بأوطانهم ، ويتألقوا بها لتبدو في رابعة النهار عروس متربعة عشرها ، وهذا الذي صنعته زرقاء اليمامة التي مثلت بموقفها الذي سنحكيه موقفا مشرفا لأرباب المسئولية تألقت في حياتها لما رأت ان من واجباتها أن تقوم بصيانة قومها بأي الطرق الممكنة.
وزرقاء اليمامة كما نعرف ويحكي لنا التاريخ فتاة عربية عاقلة جميلة وكان اجمل ما فيها عيناها وكانت ترى بهما على مسافات بعيدة جدا والناس يعجبون من قوة نظرها، وكانت بلادها تسمى اليمامة فسميت الفتاة بزرقاء اليمامة وفي هذه البلاد عيون ماء كبيرة وبساتين جميلة وفي وسطها قلعة عالية على جبل مرتفع.
وكان ابو الزرقاء تاجرا مشهورا وقد حدث ان سافر للتجارة إلى بلاد بعيدة وغاب اكثر من شهر ووفي عصر يوم من الايام صعدت الزرقاء إلى اعلى الجبل ونظرت بعيدا ثم نادت أصحابها وهي تقول "ابي ابي هذا أبي قد عاد من سفره وأنا أراه بعيني"، ونظر أصحاب الزرقاء إلى كل جهة فلم يروا شيئا وحققوا النظر فلم يبصروا أحداً والزرقاء تقول "هذا ابي على فرسه الأبيض وهذا اخي وراءه وهذه الجمال من بعدهم خمسون جملاً على ظهر كل جمل حمل كبير من البضاعة "
وصارت تصف لهم القافلة ومن فيها وهم ينظرون ولا يرون شيئا فلم يصدقوها وقالوا " ان الزرقاء قد خدعتها عيناها الجميلتان" وذهب كل واحد بيته يحكي لأهله ما قالت الزرقاء وناموا طول الليل
وعند الفجر كانت القافلة قد دخلت اليمامة وحضر ابو الزرقاء بتجارته وقافلته كما وصفت فلما أصبح الناس صدقوا وعرفوا قوة بصرها
وكانوا بعد ذلك إذا أرادوا أن ينظروا شيئاً بعيداً أو يروا في الطريق أحداً أخدوا الزرقاء وصعدوا بها إلى القلعة فوق الجبل وهي اعلى مكان باليمامة
فتنظر وتخبرهم بما ترى
وذات يوم اراد اصحاب الزرقاء ان يمتحنوها ويعرفوا قوة نظرها فاجتمعوا وقالوا يا زرقاء سنعد حماما ونحبسه ثم نطلقه في الجو امامك ونسألك أن تعديه
فإذا عرفت عدده شهدنا لك
ورضيت الزرقاء بامتحانهم فاجتمعوا وحبسوا حماما عدوه ولم يخبروها بعدده ثم اطلقوه فاجاة وقالوا عدي يا زرقاء
طار الحمام بعضه إلى اليمين وبعضه إلى الشمال وتفرق في سرعة ولكن الزرقاء عدته وعرفت حسابه تماما ثم أرادت أن تمتحنهم كما امتحنوها وجعلت جوابها في صورة احجية فقالت اذا اضيف إلى هذا الحمام نصفه والحمامة الواحدة التي عندي كان عدد الحمام مائة)) ففكروا وحسبوا ووجدوا جوابها صحيحا فاعترفوا لها بصحة الحكم وقوة النظر
صعدت الزرقاء يوماً إلى القلعة ونظرت فرات شيئا عجيبا رات من بعيد شجرا كثيراً يمشي وينتقل من مكان إلى مكان فنادت رئيس قومها وقالت" ارى شيئا عجيبا ارى شجراً كثيراً يمشي وينتقل " فعجب الناس وقالوا "الشجر يمشي يا زرقاء هذا شيء لم نره ولا نقدر ان نصدقه أنظري أعيدي النظر .حققي " فأعادت النظر ثم قالت " كما اراكم بجانبي ارى الشجر من بعيد يمشي " قال واحد من اهلها " ربما جاء إلى تلك البلاد سيل شديد فقلع الشجر من مكانه وحمله لذا تراه الزرقاء يسير"
اعادت النظر وقالت "لا بل اراه الان اوضح مما كنت اراه تحت الشجر رجالا سائرين والشجر معهم يسير" فنظروا هم ثم قالوا " لا يا زرقاء الجميلة اخطأ نظرك هذه المرة وخدعتك عيناك " قالت " لا بل ارى ذلك كما اراكم بجانبي "
وجاء الليل فانصرفوا وذهب كل إلى داره وعند الفجر ايقظ الناس جيش كبير مسلح يقوده اكبر عدو لليمامة كان الجيش مستعدا معدا سلاحه وكان اهل اليمامة نائمين تاركين سلاحهم ففاجأهم العدو المهاجم وقتل كثيرا منهم واستولى على قلعهم وعندئذ علم الناس أن الزرقاء كانت صادقة وكانت تخبرهم بما تراه حقا ولكن فات الاوان وضاعت الفرصة
كان هذا العدو يريد ان يهجم على اهل اليمامة فجأة وكان يخاف من عين الزرقاء ان تراه وتخبر اهلها فيستعدوا لقتاله ولهذا دبر تلك الحيلة وامر رجاله ان يحمل كل واحد منهم فرع شجرة او يحمل كل جماعة شجرة تغطيهم حتى لا يرى من ينظرهم من بعيد الا الشجر يمشي ونجحت الحيلة لان اهل الزرقاء لم يصدقوا كلامها رغم صحته
و بحت رئيس الجيش المهاجم عن الزرقاء فلما احضرت له قال " انت التي اخرت جيشي مراراً قبل هذه المرة ومنعته أن يأخذ اليمامة فكلما اقبلت بجيش نظرت فكشفت مكانه واخبرت اهلك فيستعدون لي "
قالت " وكنت اتمنى ان اؤخره هذه المرة ايضا " قال " ولكن عقلي غلب عينيك"
قالت "لم يغلبهما ولكن اهلي كذبوني حين اخبرتهم"
قال " هل تحبين ان تصحبيني وتخبريني عن كل من يقصد إلى بلادي ولا اكذبك كما كذبك اهلك"
قالت " كثرة البكاء على أهلي والحزن على وطني يضعف بصري فلا يجعلني أرى شيئاً " قال " الان وجب ان احرمك عينيك"
قالت " اذن تحسن الي فانه لا فائدة لي في عيني اذا لم اخدم بهما اهلي ووطني وفقدهما خير لي من ان ابصر بهما العدو الذي قتل اهلي وخرب وطني والان فافعل بعيني ما شئت ولا تطمع من الزرقاء ان تخدم بهما عدو الوطن "
إن مثل هذا الموقف فيه دلالات واضحة على أن تألقنا نحن من نصنعه، ونحن من ننميه في نفوسنا وعقولنا وأرواحنا وكل ذرة في وجداننا.
مروان المخلافي
امنح حياتك التألق 1800