في موكب جنائزي مهيب سكب الحاضرون له أعز ما يملكون من الدموع, شيعت تعز فقيدها الغالي وابنها البار الدكتور فيصل سعيد المخلافي الذي اغتلته الأيادي الآثمة في جريمة اهتزت لها المحافظة عن بكرة أبيها لما كان يحمله الفقيد من روح وطنية عاش بها بين أبناء محافظته. إن ما جعلنا نكتب عن الفقيد هو حقيقة أن بعضا من الناس في هذه الدنيا – وهذا ما شعرنا به في موت هذا الغالي – يعيشون وهم يحملون البلاسم لكثير من أوجاعنا، وبين جنوبهم كثير من العزاء والسلوان لكثير من همومنا، لذلك كان موت هؤلاء مصيبة حقيقية ليس لأنها تصيب أقارب الشهيد بل لأنها تصيب الكثير ممن كان للفقيد بصمة خير عليهم، ولمسة حنان وتربية على نفوسهم، وظلال وارفة على أرواحهم وهو ما يقوله من صاحب الشهيد وتعرف عليه عن قرب . لقد كان صباح استشهاده مُرا ّ في فمنا، فما لنا بالحزن كيف سيكبر والذكرى في طريقها لأن تتدحرج بين زوايا أرواحنا، وخواطر البوح في نفوسنا، وتباريح السفر والاغتراب لعزيز فقدناه لمن نشبع منه بعد، لذلك لا الدمع يكفكف الآم الرحيل، ولا الوجع الضارب في أعماق النفس يخفف لوعة الفقد، ولا التوقف عند محطات الرفاق يجلب شيئا من السلوى، لأن موته كما قال الشاعر يرثيه:
خطبٌ أصابَ تعزَّها في مقتلِ * ومصيبة ٌ تودي بكلِّ تحمُّل
من بعدِ ما نفث الأراذلُ حقدَهم * في بدرِ مخلاف المفكِّرِ ( فيصلِ )
قتلوا به وطنَ السلامِ وحطـَّموا * حُلمَ الأمانِ وفرحة َ المستقبلِ
قتلوا الثقافةَ والعلومَ بقتلِهِ * وتحمَّلوا في الجُرمِ حملَ المثقلِ
إننا في الحقيقة لا نبكيهم لأنهم رحلوا، بل نبكي أنفسنا لأنهم تركونا وحدنا, إن كل آلامنا ودموعنا تتعزز في أننا لن نراهم بعد اليوم في دنيانا، وقد كانوا بعض سلوتنا أو جزءا من حياتنا أو بقية من رفاقنا، لذلك فإننا عندما نبكيهم إنما نبكي من أجلنا نحن، لا من أجلهم لأنهم رحلوا، فلن يشعروا ببكائنا، ولن يستعيدوا شيئا مما مضى، ولن يكون بمقدورهم أن يصنعوا شيئا لأنفسهم أو لنا. لكن هذا لا يمنع من ان يكون لنا من بعدهم انتظار في محطات الوفاء وخاصة تلك المحطات الصباحية التي تكون مرة في فمنا، وكل ما حولنا يوحي بالذبول، والكلمات تتحشرج فنضطر لاستعادتها من قاع التردد لتبقي على خيط الحياة الممدود. لقد أثارت فاجعة رحيله عند الكثير من محبيه غصة في الحلق، وانطفاء لومضة نبل إنساني. وإذا اجتمع في المرء النبل وحب الخير وكرامة النفس والوقوف عند الحق فقد ترك الدنيا وهي أحسن مما وجدها... وفي هذا عزاء لنا وأي عزاء. إن كثيرا من الناس اليوم ممن عرفوا لشهيد عن قرب ليدركون أنه كلما خطرت على نفوسهم خواطر الرحيل، أو مر ذكر راحل ترك الدنيا أحسن مما وجدها، وجدوا أنفسهم مع الدكتور فيصل سعيد المخلافي يستعيدون وجهه البشوش ، وإقباله الجميل عليهم، وأخلاقه الخالدة التي وقفوا عندها إجلالا وإكبارا واحتراما. وكثير من هؤلاء يشهدون أن الراحل ترك الدنيا أحسن مما وجدها، فلم يكن عيشه حلوه ومره، وسنوات سفره للدراسة، وتعاونه الكبير مع أبناء بلده الذين كانوا يسافرون إلى مصر للعلاج ليكون هو في استقبالهم، إلا دافعاً جميلاً لصنع الخير عندما أدركته الدنيا، لتتمثل فيه أجمل خصلتين يمكن للمرء أن يجمعهما كرامة النفس ونُبل المقصد، ومن كانت هذه أخلاقه فلابد وأن يرحل عن الدنيا وهو زائد فيها، ولم يكن زيادة عليها، وقد تركها أحسن مما وجدها، وهذا ما لم يعرفه قاتلوه الذين لم يبلغوا بقتله مساحة شبر من السعادة واطمئنان النفس.. لذلك كان وصف الشاعر عمر النهاري دقيقاً عندما رثاه بقوله :
لم يقتلوهُ وإنما قـُتـِـلوا به * فمقامُه بقلوبِنا لم يرحلِ
أيكون يومُ وفاتِه بعثاً لنا * من بعد أعوام كطعمِ الحنظلِ
فدمُ الفقيدِ دمُ الشهيدِ طهارةٌ * من رجسِ كلِّ مخرِّبٍ ومعطـِّـلِ
هذا الذي لازال (فيصلُ) ناصحا * يرسي به الأمجادَ للمستقبلِ
ولأجلِه ضحِّى وها كلماتُه * قامت تبلِّغُ فكرَهُ السامي الجَلي
وكما للموت مهابة، فإن لرحيل الدكتور/ فيصل المخلافي, مرارة وألم وشعور بالغ بالفقد، نحن وحدنا من تمتد بهم الحياة لنبكيهم، ونذرف الدمع في وداعهم، ونشيعهم لمثواهم الأخير، ونحن لا نكاد نصدق أننا لن نراكم بعد اليوم. رحمك الله يا دكتور فيصل وعزاؤنا أننا فقدنا كريماً يقدم على المولى الكريم ونقول له:
ستظلُّ لحناً في ربيعِ قلوبِنا * ولكُ الدًّعاء والحبُّ والقدرُ العلي
وكفى المبادئَ أن تكون فدىً لها * لتنالَ في الجنات أسمى منز