تحدثنا في مقالنا السابق عن الحياة وإشراقاتها التي نحن اليوم بأشد الحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى نظرا لتبدل المفاهيم ، وتغير السلوك ، والانتكاسة التي اصبنا بها في أخلاقنا ، وواجبات الغير علينا ، ناهيك عن الانفصام النكد الذي أصاب تفكيرنا ونظرتنا للأمور من غير أبعادها وزواياها المحددة ، أمور جعلت من الحياة حولنا أراض زراعية قاحلة غير مستصلحة ، وبساتين تساقطت جميع أوراق أشجارها حتى لم تعد ترى فيها ما يمكن أن نسميه لونا اخضرا يوحي بان ثمة حياة حقيقة يمارسها الناس هنا .
وحتى لا اكون متجنيا على أنفسنا والمحيط الذي يكتنفنا ، وأكون كمن يضرب جلده أضرب لك أخي القارئ حادثة بسيطة لرجل قام بمحاولة التخلص من زوجته لأنها أنجبت له ولدا مشوها ، وهذا المثال أسوقه لندرك مدى الفجوة التي صنعناها بأيدينا لجعل الحياة متاهة لا نكاد نخرج من إحداها حتى ندخل في اخرى
وباعتقادي أن الحياة جانبها المشرق يبدأ من تشربنا لثقافة الحلم والرحمة ، وكذلك الرفق الذي ما كان في شيء إلا زانه ، وما نزع عن شيء إلا هانه .
لقد توقفت كثيرا امام موقف لولد سعى جاهدا لأن يكون بارا بأبيه حتى تشرق الحياة من حوله عليه وعلى والده ، والموقف تدور أحداثه حول رجل قام بدق باب بيت رجل ليفتح له هذا الولد فإذا الطارق رجل يتطاير الشر من بين أنيابه ، دخل البيت وبلا سلام ولا كلام و لا احترام وتوجه نحو رجل عجوز شايب يجلس في صدر المجلس، أمسك بتلابيبه وقال له : اتق الله وسدد ما عليك من الديون فقد صبرت عليك أكثر من اللازم ونفد صبري ماذا تراني فاعل بك يا رجل ؟ وهنا تدخل الشاب ودمعة في عينيه وهو يرى والده في هذا الموقف وقال للرجل : كم على والدي لك من الديون ؟ فقال الرجل أكثر من تسعين ألف ريال ، فقال للرجل : اترك والدي واسترح وأبشر بالخير ودخل الشاب إلى المنزل وتوجه إلى غرفته حيث كان قد جمع مبلغا من المال قدره سبعة وعشرون ألف ريال من رواتبه التي يستلمها من وظيفته و الذي جمعه ليوم زواجه الذي ينتظره بفارغ الصبر ولكنه آثر أن يفك به ضائقة والده ودينه على أن يبقيه في دولاب ملابسه.
دخل إلى المجلس وقال للرجل هذه دفعة من دين الوالد قدرها 27 ألف ريال وسوف يأتي الخير ونسدد لك الباقي في القريب العاجل.
هنا بكى الشيخ بكاءً شديداً وطلب من الرجل أن يعيد المبلغ إلى ابنه فهو محتاج له ولا ذنب له في ذلك. ورفض صاحب الدين إعادة المبلغ مع إصرار الشاب على أن يأخذ الرجل المبلغ وودعه ، و عند الباب طلب ًمنه عدم التعرض لوالده و أن يطالبه هو شخصياً بما على والده و أغلق الباب وراءه .. وتقدم الشاب إلى والده وقبل جبينه وقال: يا والدي قدرك أكبر من ذلك المبلغ وكل شيء ملحوق عليه إذا أمد الله عمرنا ومتعنا بالصحة والعافية فانا لم أستطع أن أتحمل ذلك الموقف ولو كنت أملك كل ما عليك من دين لدفعته له ولا أرى دمعة تسقط
من عينيك على لحيتك الطاهرة وهنا احتضن الشيخ ابنه و أجهش بالبكاء و أخذ يقبله ويقول الله يرضى عليك يا ابني ويوفقك ويحقق لك طموحاتك.
في اليوم التالي وبينما كان الابن منهمكاً في أداء عمله الوظيفي إذ زاره أحد الأصدقاء الذين لم يرهم منذ مدة وبعد سلام وعتاب وسؤال عن الحال و الأحوال قال له ذلك الصديق الزائر : يا أخي أمس كنت مع أحد كبار الأعمال وطلب مني أن أبحث له عن رجل مخلص و أمين وذوي أخلاق عالية ولديه طموح وقدرة على إدارة العمل بنجاح و أنا لم أجد شخصاً أعرفه تنطبق عليه هذه الصفات إلا أنت فما رأيك في استلام العمل وتقديم استقالتك فوراً ونذهب لمقابلة الرجل هذا المساء ؟؟!
فتهلل وجه الابن بالبشرى وقال إنها دعوة والدي وقد أجابها الله فحمد الله كثيراً على أفضاله وفي المساء كان الموعد المرتقب بين رجل الأعمال والابن . فما أن شاهده الرجل حتى شعر بارتياح شديد تجاهه وقال : هذا الرجل الذي أبحث عنه فسأله : كم راتبك ؟ فقال : 4970ريال وهناك قال رجل الأعمال : اذهب صباح غد وقدم استقالتك وراتبك 15000 ريال ، وعمولة من الأرباح 10% وبدل سكن ثلاثة رواتب وسيارة أحدث طراز وراتب ستة أشهر تصرف لك لتحسين أوضاعك . وما أن سمع الابن ذلك حتى بكى بكاءً شديداً وهو يقول : ابشر بالخير يا والدي . وهنا سأله رجل الأعمال عن سبب بكائه فحدثه بما حصل له قبل يومين، فأمر رجل الأعمال فوراً بتسديد ديون والده.
وكانت محصلة أرباحه من العام الأول لا تقل عن نصف مليون ريال إنه ثمرة طيبة لبر الوالدين وفك ضائقة المسلمين وسداد ديونهم.
إنها ثمار الحياة عندما تورق من حولنا ومحيطنا الجميل ، الذي جملناه بأخلاقنا ، وما راق من سلوكياتنا ومبادئنا وهل هناك شيء اجمل من ذلك ، لا اعتقد..
إشراقة:
إذا جَارَيْتَ في خُلُقٍ دَنِيئاً**فأنتَ ومنْ تجارِيه سواءُ
رأيتُ الحرَّ يجتنبُ المخازي**ويَحْمِيهِ عنِ الغَدْرِ الوَفاءُ
وما مِنْ شِدَّة ٍ إلاَّ سَيأْتي**لَها مِنْ بعدِ شِدَّتها رَخاءُ
لقد جَرَّبْتُ هذا الدَّهْرَ حتَّى**أفَادَتْني التَّجَارِبُ والعَناءُ
إذا ما رأسُ أهلِ البيتِ ولى**بَدا لهمُ مِنَ الناسِ الجَفاءُ
يَعِيش المَرْءُ ما استحيَى بِخَيرٍ**ويبقى العودُ ما بقيَ اللحاءُ
فلا واللهِ ما في العيشِ خيرٌ**ولا الدُّنيا إذا ذَهبَ الحَياءُ
إذا لم تخشَ عاقبة َ الليالي**ولمْ تستَحْي فافعَلْ ما تَشاءُ
لئيمُ الفعلِ من قومٍ كرامٍ**لهُ مِنْ بينهمْ أبداً عُوَاءُ
مروان المخلافي
دع الحياة تثمرن حولك "2" 1306