منذ القصيدة المنسوبة إلى آدم عليه السلام في رثائه لولده "هابيل" (تغيرت البلاد ومن عليها) والشكوى من الزمن وتصاريفه ومن أحوال الدنيا وأهوالها لا تتوقف، وقد احتفظت لنا العصور المتعاقبة بنماذج من الشكاوى الشعرية والنثرية التي تهز الوجدان.
ويبدو أن ظاهرة الشكوى سوف تستمر وتتواصل ما استمرت معاناة الإنسان وتواصلت همومه على وجه هذه الأرض بعد أن كان ولا يزال من المستحيل لمجرياتها أن تجري وفقاً لما يرغب فيه الإنسان ويختاره، أو ينتظم مسار الحياة وفق قواعد قد تساعد على التقليل من مساحات القبح ومن ثم التقليل من مساحات الشكوى.
وبين يدي لحظة كتابة هذه الزاوية واحدة من أقدم شكاوى الإنسان وأكثرها تعبيراً عن التبرم من الحياة والأحياء، وهي لشاعر مصري قديم، يعود تاريخ كتابتها إلى أربعة آلاف سنة كما يقول مصدرها. والمهم أنها صالحة حتى اليوم للتعبير عن أوجاع إنسان العصر وتمثل الانكسارات في العلاقات البشرية وما يرافقها أحياناً من تفسخ وذبول:
وهذا جانب من تلك الشكوى:
"لمن سوف أحكي اليوم؟ الناس قراصنة، كل امرئ يستولي على حاجيات جاره .. لمن سوف أحكي اليوم؟ الماضي منسي، المآثر الطيبة لا ترد.. لمن سوف أحكي اليوم؟
ليس هناك أصدقاء جديرون بالثقة، المرء يُدفع نحو الظلمة قبل أن يتمكن من الصراخ.
لمن سوف أحكي اليوم؟ القلب الجليل مضى ومن يتبعه لا يعود.
لمن سوف أحكي اليوم؟ الحزن يسحقني لفقدان من دخل القلب.
لمن سوف أحكي اليوم؟ لأن الفساد يطوف في الأرض ليست له نهاية.
لمن سوف أحكي اليوم؟ الإخوة فظيعون، يمضي المرء إلى البرابرة كيما يجد الصلاح.
لمن سوف أحكي اليوم؟ الوجوه مشوهة كل امرئ يتحاشى ملاقاة إخوانه.
لمن سوف أحكي اليوم؟ القلوب ضارية ليس هناك من قلب يضع فيه المرء ثقته.
لمن سوف أحكي اليوم؟ ذهب العدل، الأرض أُسلمت للجْور.
روحي قالت لي: أنت تعلق شقاءك، لكن الوتد يخصني أنا . ." .
ذلك جانب من النص القديم الشاكي .. ونحن لا نكف اليوم عن إطلاق شكاوى مماثلة قد يختلف أسلوب التعبير لكن المعنى واحد والدلالة لا تتغير، كثيرة هي الصيحات التي تعلن أن العلاقات بين الناس قد تفسخت، وسادت في ظل هذا التفسخ موجات من الكراهية وفقدان الثقة.
لكن هذا النص التاريخي يؤكد أن التفسخ قديم وأن تلك هي طبيعة البشر أو بعضهم على الأقل، وأن ما يحققه الإنسان من ارتقاء في بعض العصور لا يدوم وأن الإنسان/ التراب يعود إلى طبيعته، يخون، ويتحايل، ويكره، ويتجرأ على فعل الشر علناً بما يجعل حياته وحياة الآخرين لا تطاق، وقد لا يكون في اللجوء إلى الشكوى نوع من التنفيس وتفريغ شحنة الألم فحسب؛ إنما تسجيل الظاهرة ووضعها في طريق الأجيال القادمة لإدانة الانحراف وتجريم السلوك حين يخرج عن جادة الصواب ويتجه نحو العبث بقواعد التعايش، وما تفرضه من التزام نحو النفس والآخر .
وأزعم أن كاتب النص السابق كان يبكي بمرارة وهو يخط كلماته ويعكس فيها بؤس الواقع الذي كان يعيشه وما يحيط به من وحشة جعلته يرى في الموت راحة تشبه راحة الأسير حين يعود إلى وطنه كما تقول فقرة لم تضف إلى الجزء المنشور في هذه الزاوية مع فقرات أخرى خشية الإطالة وتجاوز المساحة المحددة.
ولعل ما يدعو إلى التأمل في نص هذه الشكوى التاريخية أن الإنسان عاش على هذه الأرض قبل آلاف السنين حزيناً مهموماً، وأن انكسار القيم يكون عادة وراء انهيار الروابط الأخوية والإنسانية وتجاوز المألوف والخروج على كل المعايير التي تجعل من الإنسان إنساناً ومن المواطن مواطناً.
الخليج الإماراتية
د/عبد العزيز المقالح
قديمة هي شكوى الإنسان من الواقع 1221