كثيرة جداً هي الكتابات الفكرية التي تناولت أزمة الواقع العربي في العصر الحديث وما كان ولا يزال ينتظره من انكسارات وهزائم في غياب الاصطفاف الوطني والقومي الصحيح . والبعض من تلك الكتابات يعود إلى النصف الأول من القرن العشرين . وأهميتها تنبع من أنها كانت تنظر إلى الواقع العربي من منطلق قومي شامل وبعيد عن النظرة القطرية الضيقة . وكانت ترى - منذ وقت مبكر - أنه من المستحيل على قطر عربي أن ينفلت من جاذبية الواقع القومي المشترك وقضاياه أو يتجاوز الروابط الموضوعية التي تربط كل الأقطار العربية وتجعل منها بالضرورة وطناً واحداً تتشابه اهتماماته وقضاياه وتتماثل أحلامه ورؤاه المستقبلية . لكن المؤسف والمؤسف جداً أن تلك الكتابات بما حملته من إضاءات ودراسات فكرية لم تجد سوى القليل من اهتمام أفراد النخبة الفكرية والسياسية العربية الذين تنبهوا مبكراً لأهميتها ولما بشّرت به من مشروع تحددت معالمه وتجلت آثاره الإيجابية أكثر من خلال دور مصر الثورة والوحدة . وقد جاءت الأحداث المتلاحقة حتى اليوم لتؤكد صحة المشروع ومصداقيته وضرورته .
وكثيرة جداً هي الفرص التي أهدرت لتحقيق هذا المشروع الهادف إلى الاصطفاف القومي في وجه الأحلاف المعادية والمؤامرات المتعددة . وبما أن البكاء على اللبن المراق لا يجدي والنظر بعين الحسرة إلى الماضي لا يفيد، فإن المصلحة الوطنية للأقطار العربية قبل المصلحة القومية تقتضي أولاً إعادة النظر في المشروع ومراجعة أهدافه على ضوء الواقع البائس والمخزي هذا الذي أوصل الأمة العربية وأقطارها جميعاً دون استثناء إلى حضيض ما بعده حضيض . ولا أحد ينكر وجود بعض المكونات الوطنية في عدد من الأقطار العربية لكنها لا تلغي التماثل بل التطابق الشامل الذي من شأنه أن يتغلب من خلال التمسك بمبادئ الحرية والديمقراطية والمواطنة المتساوية وإفساح أبواب المشاركة في السلطة القومية والقطرية وتجاوز الحساسيات التي خلقتها الصراعات في أزمنة التفرد والإقصاء .
إن القارئ المحايد والموضوعي لواقع الأقطار العربية من موريتانيا إلى اليمن سيدرك أن أي قطر من هذه الأقطار غير قادر موضوعياً على بناء دولته المستقلة في معزل عن بقية الأقطار المجاورة أو البعيدة على السواء، وأن مكامن الخلل في الأنظمة المتعافية على حكم هذه الأقطار تؤكد أن جوهر المشكلة واحد، وأن القوى المعادية التي راهنت منذ القرن التاسع عشر على تمزيق الولاء القومي والشعور المشترك بدأت - بعد فشل كل محاولاتها - تدرك حقيقة أن الوطن العربي ليس كتلة جغرافية مترابطة فقط وإنما كتلة بشرية تنتمي إلى ثقافة واحدة وتؤرق أبناءها قضايا وهموم مشتركة وتحدوهم أحلام التغيير والتقارب والوقوف صفاً واحداً في وجه الهجمات والأزمات والخروج من النفق المظلم الذي سارت فيه بعض الأنظمة السابقة واللاحقة دون وعي بالمستجدات وبلا مواقف محسوبة .
ولا أخفي أن حديث الوحدة أو الاتحاد كان فقد توهجه في السنوات القريبة الماضية عند البعض من أبناء هذه الأمة إلى حد إطلاق النكات التي تسخر ممن يرون أنه لا خلاص لأقطار الأمة إلاَّ بالعودة إلى مشروع الوحدة أو الاتحاد ليحمي ما تبقى من مشاعر الولاء والوئام والتعايش داخل هذا الكيان الممتد من المحيط إلى الخليج . لكن يبدو أن الحال تغير تماماً أو أنه في طريقه إلى التغيير بعد الكوارث التي أصابت عدداً من الأقطار العربية في الصميم وفتحت أبواب جهنم على أبنائها جميعاً من خلال الحروب الأهلية والصراعات الطائفية والمذهبية وما تنذر به من اندثار شامل يجعل من وجود الأقطار العربية في صيغتها الراهنة، فضلاً عن الصيغة الوحدوية أو الاتحادية حلماً بعيد المنال . وهذا الحال وأمثاله هو ما يدفع بالعقلاء في أكثر من طائفة إلى مراجعة حسابات المنزلقات الكارثية والعودة إلى البحث في المصادر الفكرية الجامعة عن طوق للنجاة من الحروب الأهلية والصراعات التي جعلت من التعايش بين المكونات الوطنية المتنافرة ضرباً من المستحيل .
ومن نافل القول وتأكيد المؤكد أنه لا نجاة لقطر عربي واحد أو لمجموعة من هذه الأقطار من المخاطر الداخلية والخارجية وفي مقدمتها الخطر الصهيوني إلا بإحياء المشروع الفكري العربي الإنساني الجامع لشتات أبناء أمة فقدت بوصلة المسار الصحيح عندما انحرفت عن ذلك المشروع واختار بعض أبنائها السير في الظلام في عصر الأنوار والتكتلات غير المتجانسة لغوياً وعرقياً وتاريخياً.
الخليج الإماراتية
د/عبد العزيز المقالح
عن أهمية إحياء المشروع العربي 1301