تظل الطفولة وما بلغتهُ من إحساس مختلف أهمها تلك العفوية والبساطة وما شابها تحتل قلوبنا جميعاً على الرغم من اختلاف مناهجنا في الحياة سواءً أكان هذا الطفل أسود أم أبيض أياً كانت بيئته كل هذا لا يهم وما ندركه حينها أنه أصدق إن قال وأجمل إن أبتسم فهو من يمتلك حساً فطريا مازال في ذروة بلوغه وعبق أريجه هكذا تظهر لنا الصورة فيه شاهد على أن إنسانيتنا التي تعتقت على إثر الكبر وما سلبنا فيه من تلك المعاني الجميلة الوقت الذي تظل الطفولة ما بقي لنا من ثمين الحياة.
لهذا نجدها محفورة في وجداننا على اختلاف مستوياتنا الفكرية وشرائحنا الاجتماعية لاسيما ما يتعلق بأيام الدراسة والمناسبات الدينية مثل رمضان والأعياد دوناً عن كل المسافات التي نقطعها في الحياة بهمومها وأفراحها.
ولعل الجميع يتفق معي انه الزمن الجميل الذي طالما تُقنا إليه وهو الطفولة حيث ينبغي أن نتحراه لأبنائنا لنجدهم فيها بأفضل ما كنا عليه وان كان أهم ما يمكننا توفيره لهم هو التعليم الذي أصبح مثار جدل وستدركون معي حجم وأهمية ما أقوله في هذا الجانب وما وصل إليه التعليم من تفريغ للأذهان والعقول هذا في الوجه الذي يؤكد القائمون عليه انه في السليم ، وليس ثمة ما يؤكد لنا إن كان التعليم في هذه الأيام في حال أسوأ ألا لو قارناه بغيره في حقبه زمنية أخرى لذا كان عليا العودة بكم لما قبل ثلاثون عاما مضت في قراءة ندرك بها ما هو الفرق بين ما كان عليه التعليم حينها وما هو عليه اليوم على الرغم مما نحن عليه من إمكانيات ووسائل ، فأنا ما زلت أذكر مدرستي الريفية في أحد مناطق وادي بناء أرض الشلالات المائية والخضرة ولا أدري إن كان للطبيعة ونقائها دور في هذا إلا إنني مازلت أذكر أهلها وما هم عليه من تلقائية وبساطه طالما افتقرنا إليها في بعض ألمنا طق ، وعلى الرغم إن المدرسة التي كنا ندرس فيها مجرد هيكل خالي من الأبواب والنوافذ إلا إنني ما زلت أحتفظ بباقي ذكرياتي الجميلة أهمها تلك الوجوه المصرية والسورية والسودانية على اعتبار ما كان يتم تدريسه وسر اختلافه كليا من حيث قدرة المعلم وطبيعة إحساسه في توصيل المادة العلمية فهو لم يكن حينها يؤدي وظيفه تقتضي منه ما يحدث اليوم للمدرس في آخر ساعة للعمل من قطم أظافره وهو على باب الشعبة في انتظار الجرس .. الذي كان علينا أن ندين للمدرسين العرب بالعرفان لما قدموه من دور ريادي في هذا الجانب.. فإن ما عدنا للحديث عن مدرستي القديمة وفصولها التي مازالت مرسومة في مخيلتي ونحن نفترش الأرض وأمامنا صبورة خشبية متنقلة... أتذكر ما كان يصيبني من هلع وخوف حال جئت إلى المدرسة وأنا غير معد للواجب الذي كلفنا به المدرس خوفا من العقاب فالعصا لا ترحم رغم أنها لم تسقط إيثار الود والتلاحم بين آباء .. همّ المدرسين العرب وما أمكنهم من غرسه فينا من مودة, ألفناها من خلال تفانيهم وإخلاصهم لها فالمدرس حينها لا يترك في ملامح التلميذ شيء إلا قرأه .. يدرك حين يكون شاردا أو مريضا ، كما يدرك ماذا يحسن إجادته فينمي هذا الجانب الأمر الذي جعل بعض المواهب تظهر فينا ونحن صغار .. بسبب قرب المسافة بين الطالب ولمعلم ولعلهم.. بهذا استطاعوا أن يستثمروا ما غرسوه فينا فكانت النتيجة أن بادلناهم حسن فعلهم في تربيتنا تفانينا في حبهم وإن كنت على سبيل المثال لا الحصر ما زلت أتذكر موقفاً وأنا في السوق مع والدي حين أشترى كيسين من اللحم وأوصاني أن أصل أحدهم للبيت والأخر للمدرسين ، لأننا كنا نتكفل لهم باللحم والخبز أيضا كون أفران الخبز غير متوفرة في الأرياف وليس لهم أسر وأثناء ما كنت في الطريق فتحت الكيسين و بحب من يؤثرون على أنفسهم وضعت جزء مما أوصى به أبي للبيت في كيس المعلمين وان كانت( هبره) من اللحم في شعور سرقني إليه فرحي بعمل ما فعلت كأنني اقتبس من مهجتي لإعطائهم لا من الكيس الوقت الذي لو كان بإمكاني إعطائهم الكيسين لفعلت ذلك دون أدنى تردد ، شعوراً بالامتنان الذي نمى إلى ذهني أنهم أهم من أسرتي وهذا ما يتوقه المعز لأنهم أحبو عملهم فأحببناهم لاكما هو اليوم والكل يدرك ما الفرق و ما يحدث هذه الأيام من غطرسة لبعض المعلمين ينتهي بشرخ بينه وبينهم وبهذا يكون الوسيط الحقيقي للتعليم أي الشعور بالأبوة قد فقد والتربية والتعليم وتحديداً التربية وخصوصا عند النشء تقف عند هذا الحد من الأساس بين المعلم والتلميذ فيما أذكر أيضاً أنه لم يكن للمدرسة مدير أو وكيل ؟ كلما هنالك مجموعة من المدرسين العرب ؟ يعملون بإخلاص يرقبهم نازع الشرف والأمانة الذي تربوا عليه الوقت الذي لا وجود له اليوم إلا من رحم الله .. ما أود أيضاً لفت الانتباه إليه إننا لم نكن حينها نلمس لهم غياب بالرغم من عدم وجود إدارة شانها متابعتهم وكلما هنالك موجه يأتي في السنة مره أو مرتين على الأرجح للمتابعة ورفع الغياب ؟ ألأهم من هذا ما كان يدرس حينها ؟ فانا ما زلت اذكر حصص الإملاء التي كنا نأخذها كل يوم ... وأكرر كل يوم الوقت الذي يدور نقاش بيني وبين ابنتي التي تدرس هذا العام الصف الثاني ثانوي وأنا اسألها عند ملاحظتي لبعض الأخطاء الإملائية التي من المفترض أن لا يخطئ بها أحد سألتها .. كم حصة إملاء تأخذونها في الأسبوع؟ فأجابت أنها لم تأخذ حصة إملاء على مدى ألمرحلة التي وصلت أليها ؟ ولكم أن تتخيلوا سر ما يعانيه هذا الجيل من ضعف في هذه الناحية ومما لا شك فيه أن شيء ما قد أصابني بالذهول كدت حينها لا اصدق فهممت في كتابة هذا المقال أوعز من خلاله ما وصل إليه حال التعليم علنا نلمس من لهم قدره على تحريك شيء في هذا الجانب ليس في موضوع الإملاء وحسب بل في جوانب عده أهمها المنهج الذي أعد على أساس أن يخرج الطالب بحصيلة تمكنه من الوصول إلى قدر معين من العلوم المترابطة تصاعديا حتى يكتمل جهده المعرفي والذي يأتي وفق تسلسل هرمي كون المناهج مترابطة ، لكن ما الذي يحصل ..
الوقت الذي يكون الكتاب المعد للدراسة مكون من ثمانية أبواب أو أكثر في حين يأتي غياب بعض المدرسين المتكرر بسبب ارتباط بعضهم بعمل آخر على الرغم إن القانون يمنع المعلم مزاولة عملين إلا إن ما يحصل أن العمل في التربية جزء مكمل فأنا أعرف على سبيل المثال مدرس يبيع أسطوانات الغاز في الصباح في حين يزاول مهنة التدريس في فترة المساء وإن كان هذا أيضا جزء من التغلب على الحياة الصعبة التي يمر بها المدرس وأن كان من المفترض أن يولي عمله التربوي الأولوية أو تركه اذا لم يجد ما يفي حاجته ،و لنا ندرك هذا من خلال جملة من السلبيات أهمها عدم الالتزام بتدريس المنهج فلو افترضنا أن الكتاب المدرسي يحتوي كما أسلفنا على ثمانية أو على عشره أبواب في النصف الأول مثلاً تجد بعض المدرسين ألمثابرين قد أكمل فيما آخر قد وصل للباب السابع الوقت الذي نرى هؤلاء المتعثرين في الباب الثاني والثالث وموعد الامتحانات على وشك وأثناء ما يجتمع مدرسي المادة للتدارس فيما بينهم إلى أين يتم وضع الأسئلة ينتهي الاتفاق بوضعها نهاية الباب الثالث وليس السابع أو العاشر من اجل التوافق بين ما أخذه طلاب المتعثرين بسبب مدرسهم الغائب والمتقدمين ومن ثم يقال للطلاب ذاكروا من كذا إلى كذا أي إلى الباب الثالث وما يزيد الطين بله ما يقوم به بعض المدرسين من إعداد ملخصات فيقال بعدها للطلاب الامتحان من الملخص ليتم شراء الملخص الذي يتضمن ورقتين أو ثلاث في حين قيمتها مائة ريال فيما تكون الكلفة الحقيقية اقل من 15ريالاً والهدف من هذا العرض إغراء الطلاب لشراء هذا الملخص الذي لا يستغرق في حفظه ساعة وإن كان ما يعنينا في النهاية هو الامتحان والذي أصبح لا يراعى في طرحه أسئلة موضوعية تستحق أن تذكر لشدة بساطتها التي وصلت حد السذاجة فمادة الرياضيات على سبيل المثال وصل الحد بهم أن يضعوها على هيئة صح أو خطأ ، اختار الإجابة الصحيحة أكمل الناقص الوقت الذي لو طلب من اغلب الطلاب حل مسألة ما في القسمة المطولة في الصف السادس مثلا أو في الكسور العشرية أو غيرها من المسائل المقرة ما استطاع الأغلب منهم حلها مع أنهم في الغالب ناجحين بدرجات متفوقة فيدرك حينها ولي الأمر إن أبنه قد نجح والحقيقة إن هذا النجاح مزيف لأنه كما أسلفنا لم يشمل المنهج إضافة إلى الأسئلة المقدمة والتي لا تستحق الذكر وإن كان من المؤسف أن الوزارة ليست على اطلاع بكل ما نتحدث عنه الأمر الذي لا يتيح لها معالجة أخطائها فمشكلة ما قبل عشرين سنه هي مشكلة اليوم للأسف ، فتعالوا معي نجمل ماضيا ..أدبر ونحن نتذكر مادة اللغة الإنجليزية والتي ما يزال النجاح يتم فيها منذ عهد بعيد على طريقة (حا بادي) ولعلها المثل السائد إلى يومنا هذا رغم أن الأمر في فهمها ليس مستحيلا وإلا لماذا نجحت بعض المعاهد الخاصة في اجتذاب وتخريج العديد من الطلاب الملمين بهذه المادة وهذا يعني إن هذه المعاهد أمكنها اختيار مدرسين أكفاء ليس كما تصدره إلينا كلية التربية فيأتي توظيفهم على إثر الشهادات التي تمنحهم ، الظريف أن أجد أحد أبنائي الصغار في العام المنصرم يقف أمام التلفاز في أيام الامتحانات على غير العادة فسألته لماذا لا تراجع مادة امتحان غداً ؟ فأجاب بلفظ يوحي إن الأمر مفروغ منه ( هو بكره إنجليزي ) فذكرني بالذي مضي فانا ما زلت أتذكر أجيال كانت لا تراجع هذه المادة ليلة الامتحان لعدم فهمها لهذه المادة مع أنها في النهاية تنجح ولو سئلنا كيف تنجح لأدركنا إن سر نجاح الجميع هي البركة وإن كان الجميع يشكي من قلة البركة إلا في التربية والتعليم وعلى ذكر هذا الأمر ما زلت أتذكر أحد قريباتي التي وصلت في دراستها إلى مستوى سابع وهي لا تميز بين الحروف الوقت الذي لا تجيد قراءة أو كتابة شيء لينتهي أمرها بالزواج وبعد ذلك تعود للدراسة من جديد ولكن هذه المرة في صفوف محو الأمية وإن كنا قد لمسنا لها نجاح لتصل من الأول إلى السادس الوقت الذي أمكنها أن تجيد القراءة والكتابة ولو تساءلنا عن السبب لوجدنا إن الشعور بالنقص من دفعها إلى ذلك وهي ترى الباقون بخلافها يقرأون ولعل الكثير ممن تركوا التعليم ينتابهم الشعور بالندم لكن بعد فوات الأوان ، وهذا يعني إن على الدولة أن تراجع حساباتها إذا ما أرادت نهضة تعليم أن تعد المعلم قبل تخرجه بحيث يكون له اهتمام ومراعاة وهذا الأمر يتطلب وجود معاهد خاصة يتم استقطاب ألمتفوقين أليها من مختلف أنحاء الجمهورية وتدريسهم بعد ذلك على أيدي أمهر المدرسين ابتداء من تاسع وصولا إلى الثانوية العامة وكذلك الجامعة والتي يراعى أن تخصص كلية للمتفوقين تشمل كل التخصصات بما في ذلك ألسكن ألخاص وكذلك الملبس ووجبات الطعام إلى جانب الإعانات المادية المنتظمة والتي من شأنها أن تدفع الآباء إلى دفع أبنائهم للالتحاق بمثل هذه الأماكن بحيث يتخرج الطالب وهو على ثقة أنه موظف مثلما يتم في الكليات العسكرية بحيث لا يكونوا أصحاب الأولوية في التوظيف وليس هذا المشروع مهمة صعبة أو مستحيلة أمام تنفيذه من قبل الدولة, فالأمر أيسر مما نتصور ومدرسة جمال عبد الناصر التي أُعدت للمتفوقين خير دليل وكان الأولى أن تنفق هذه الأموال في تهيئة معلمين تحضرهم الكفاءة من الطلاب المتفوقين يتم بعدها تدريسهم على أيدي أمهر المدرسين على أن يتم كل فرد منهم الحفاظ على مستواه وتفوقه الوقت الذي تشملهم كليه خاصة تابعه لكلية التربية.. هذا اذا كنا نرغب الوصول للتعليم.. والله الموفق..
عبد الوهاب البنا
وجه الطفولة وحاضر التعليم 1407