بات الكل في هذا الوطن عفواً أقصد (بقايا) الوطن إن جاز لي التعبير أن أسميه, يبحثون عن وطن اسمه اليمن ليسكنوا بين ثناياه ويتفيؤوا ظلاله ويستنشقوا أنفاس صباحاته الجميلة على أنغام تماوج المروج وانسيابها وتراقص أغصانها, وليس على أصوات المدافع وهدير الطائرات ولعلعة الرصاص ورائحة الدم وأنفاس الموت التي بتنا نسمعها وهي تبتلع أبناء هذا الوطن دون أي ذنب يُذكر أو جُرم لا يغتفر..
وطن ليس بذلك الوطن الذي (يُفصِّله) السياسيون على مقاساتهم وأحجام (كروشهم) وحاجياتهم وأطماعهم وجشعهم الذي لم ينتهِ ولن ينتهي ما داموا لا يحملون له أو لشعبه أي حب أو اعتزاز أو صدق أو إخلاص, ولو حتى أقل القليل مما يحملونه بين ثناياهم من غلٍ وبُغض له ولهؤلاء "الغلابة" الذين لا ناقة لهم ولا جمل في مناكفاتهم وصراعاتهم الدائمة..
نبحث عن الوطن كلما أشرقت شمس الضحى بين ثنايا الصباح وخيوط الشمس لننسج منها أملاً مشرقاً بغدٍ أفضل لا دماء فيه تنساب وتسفك, ولا أرواح فيه تُزهَق وتُستباح, ولا أجساد فيه تمزق وتتناثر وتبعثر هناء وهناك وتختلط فيه الأشلاء بعضها ببعض لمجرد أن من يعشقون الدم ويهوون لغته ويتخاطبون بها أرادوا أن يكون ضحاياه (سواء) أكانوا صغاراً أم كباراً نساءً أم رجالاً أبرياء أم ظالمون؟, لا يهم فما يهم هو أن تكون تلك الأجساد البريئة هي الوقود الذي تأكله نار أحقادهم وسعير دواخلهم..
وطن لا تسيِّره الأهواء أو الجماعات أو الجهات أو القبيلة أو السياسة الرعناء أو مزاج أولئك الذين تُدخِلهم لحظات مضغ القات في حالة هستيرية ونشوة همجية مدمِّرة تعصف بكل شيء وتدمر كل شيء دون استثناء, بأفكار عبثية و"هوشلية" وقاصرة جداً لا ترتقي لأن تكون بحجم هذا الوطن الذي قيل عنه:( يمن الحكمة والإيمان), وحوله (فِكر) وجشع هؤلاء إلى (يمن اللا أمن واللاَّ أمان )..
لن يكون الوطن الذي نبحث عنه وطناً تُقتَل فيه الطفولة في مهدها وتُسرَق منه الابتسامة من على شفاه أبنائه , وتُسلَب الحرية وتُكبَّل أيديهم, وتمزق حنايا الأمهات فيه, وتفجع قلوب أباء من سلبت السياسة والأحقاد الأرواح من أجساد أبنائهم, ورسمت البؤس والشقاء على مُحياهم وأجبرتهم تلك الفجائع والنكبات أن يدخلوا في حالة حُزن أبديٍ عميق لن ينتهي ما دام الوطن ينزف كلما أشرقت شمس الضحى..
نبحث عن هذا الوطن بين ثنايا أولئك الظالمين الذين أعمتهم السياسة وطمست قلوبهم الأطماع وسكن الحقد والغل في دواخلهم فلم يعد يهمهم أن يرتقي الوطن أو أن ينعم شعبه وأهله بشيء من السكينة والراحة والطمأنينة والاستقرار, لننتزع بين حناياهم بقايا هذا الوطن الذي ليس حكراً عليهم ولن يكون حكراً عليهم ما داموا قد أضاعوه وجعلوا منه ساحةً لتصفية حساباتهم ومسرحاً تُعرض فيه هزليتهم وسخافاتهم واستهتارهم الدائم بكل شيء..
وطن لن يكون قرباناً لنار الساسة أو كبش فداء لهم ولاقتتالاتهم ولمناكفاتهم أو مكايداتهم أو أحزابهم أو ولاءتهم الضيقة لأرباب أموالهم وأسياد بطونهم وكروشهم, فيعبثون به حينما لا يوافق أهواءهم أو أفكارهم أو يعيثون فيه فساداً حينما لا يجدون فيه مبتغاهم وغاياتهم وأطماعهم الدنيئة, فيمارسون طقوس تدميرهم وعبثهم وفوضويتهم فيه, لإشباع رغباتهم ونهم همجيتهم..
هذا الوطن لا يتعدى تلك الأحلام الغضة البريئة التي تجيش بها صدورنا الصغيرة والمتمثلة في الأمن والأمان والسكينة والراحة والطمأنينة وكسرة الخبز وشربة الماء, بعيداً عن مظاهر الترف والبذخ والعبث والرفاهية, وبعيدا عن السيارة الفارهة والمباني السامقة والشاهقة والحرير والديباج وما لذَّ وطاب من الأكل.. فقط وطن ينعم هو بالسكينة ويسكننا دواخله دون عناء أو خوف أو وجل.
فهد علي البرشاء
نبحث عن وطن!! 1320