نعيش جزءاً من مليون جزء من مدنية أوروبا، حيث تنحصر ممارساتنا لجزء المدنية في سلوك الاختزال الذي عبث بالحياة من حولنا وتركنا على أعتاب التخلف والمحاكاة والتقليد الأعمى لمظاهر الحياة الأوروبية دون أدنى طائل يذكر، حيث لم نفهم من المدنية إلا اختزالها وحصرها وقصرها على الشكليات والقشور..
فالواهمون المقلدون اختزلوا المدنية في اعتماد الحرية المطلقة دون ضوابط وشروط، واندفعوا إلى تكريس الاختلال بين الجنسين في أقطار وأمصار عربية وإسلامية تحديداً في الوقت الذي يدعو فيه أحد رؤساء الولايات المتحدة الأميركية بإعادة الله إلى المدارس لقاء التقارير التي رفعت إليه بأعداد الطالبات المهول اللاتي أجهضن وهن في سن مبكرة من جراء الاختلال والحرية والإباحية المطلقة، النظرة الاختزالية للمدنية حال دون رفعت الوطن العربي والإسلامي الكبير، فحيثما اعتلت صيحات في أوروبا الغربية مطالبة بمساواة المرأة بالرجل في الأجر اليومي في المصانع التي كانت تستغل النساء وتفرض عليهن ساعات أطول في العمل يفوق ساعات عمل الرجال، وذلك بأجر زهيد يقل بكثير عن الأجر اليومي للرجال انطلقت في الوطن العربي والإسلامي صيحات تنادي تحرر المرأة ومساواتها بالرجل في كل شيء، فكان سفور المرأة العربية في بعض الأقطار والأمصار العربية والإسلامية المنفتحة التي فهمت المساواة فهماً خاطئاً، والإسلام أعطى للمرأة المسلمة العديد من الامتيازات والحقوق فجعل لها إرثاً بعد ممات زوجها في الوقت الذي لم تعترف فيه فرنسا بإرث المرأة إلا قريباً.
لقد أعلى الإسلام من شأن المرأة المسلمة وفرض لها العديد من الحقوق، ففرض لها ميراثاً بعد زوجها وبعد أبيها وأمها بعد أن كانت في جاهلية العرب عبارة عن عقار يورث، فكان الأبن يرث النساء بعد أبيه هذا فضلاً عن رفع الحيف ولجم الله سيف اللذين كانت تقاسيهما المرأة في جاهلية العرب إذا كانت النظرة إليها دونية حيث كانت تنعت بالجالبة للعار فكانت توأد حية في التراب فهذا الخليفة العادل الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان ذات مرة يبكي ويضحك في نفس الوقت، فقيل له ما يبكيك وما يضحكك يا ابن الخطار؟! فقال: أبكي حينما كنت أدس أبنتي حية في التراب وهي تزيل التراب من على لحيتي، وكنت أضحك من أننا في الجاهلية كنا نصنع بعض الأصنام من التمر حتى إذا جعنا قمنا بأكلهن ولتلك ضحكت..
فالعرب ـ وللأسف ـ فهموا المدنية والتمدن فهماً قاصراً، حيث اختزلوا المدنية في رفع القيود والتحلل من محرمات الشريعة الإسلامية في اتجاه تبذل وسفور المرأة وانتشار البارات ومعاقرة الخمور صوب الحرية الشخصية التي لا تتقيد بزواجر الشريعة الإسلامية ومحرماتها ولا تلقي بالاً للأعراف والتقاليد العربية والإسلامية الحميدة في سبيل الإباحية المطلقة ومزاحمة المرأة للرجل وتمثل الاختلال بين الجنسين في المدارس والجامعات ومقار الأعمال ولم يعتبروا من ثمار المدنية الأوروبية والتي من ثمارها مرض "الإيدز" هذا المرض العضال الذي وقفت أمامه أوروبا بمدنيتها وتفوقها المادي والتكنلوجي والطبي عاجزة تمام العجز أمام هذا الخبث الذي سيهدم المعبد على من فيه لقاء ما يحصد هذا السقم الدوي من ضحايا، فحضارة أوروبا في العصر الحديث تعلن فشلها العام، والتي نهضت في الجانب المادي ولم تلقي بالاً للجانب الروحي الذي هو بحاجة إلى إشباع من دين الفطرة البشرية السوية الإسلام..
لقد أقام الدين الإسلامي الحنيف أعظم حضارة عرفها التاريخ الإنساني منذ الخليفة الأولى والتي وازنت في النهوض بالجانب المادي والروحي على حدٍ سواء، فلم تغلب الحضارة العربية والإسلامية جانب على جانب إنما هو ارتقاء بجانب المادة وجانب الروح تلكم الحضارة السامقة التي تعد حضارة أوروبا (في الجانب المادي) امتداداً لها حيث كانت مدنية العرب والمسلمين مدنية راقية قائمة على الحرية المنضبطة بالشريعة الإسلامية السمحاء والمواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية..
فلا لاختزال المدنية في بعض المظاهر والشكليات التي لا تتماشى وروح الانتماء للدين الإسلامي الحنيف عقيدة وشريعة ومنهاج حياة، وعلينا أن ننهل من معين الحضارة الإسلامية السامقة التي قامت لتؤكد على ضرورة التوازن والتناغم والانسجام بين الجانب المادي والجانب الروحي حتى تستقيم الحياة على منهاج النبوة والخلافة الراشدة والحضارة الإسلامية السامقة التي أسعدت البشرية جمعاء، حيث استفاد الغرب منها في الجانب المادي فأدبياتها وأبجديتها كانت قيد الدراسة إبان النهضة الأوروبية وإلى لقاء يتجدد والله المستعان على ما يصفون.
عصام المطري
اختزال المدنية!! 1224