أكثر المتابعين لأحداث مصر الآن يقطعون بأن مسلسل الإعدامات لمعارضي الانقلاب قد بدأ، إلا أن موعد توقفه لا يعرفه أحد.
وقد علا صوت هذا النذير منذ بدأت المحاكم المصرية تصدر على المعارضين أحكام إعدام بالجملة، إلا أنه ارتفع أخيرا بدرجة قياسية بعد إعدام محمود حسن رمضان المواطن الإسكندري المعارض للانقلاب والمتهم في قضية إلقاء الأطفال من فوق إحدى بنايات مدينة الإسكندرية أثناء تظاهرات احتجاج مؤيدة لعودة الرئيس محمد مرسي منتصف عام 2013.
ومع أن مواصلة تنفيذ أحكام الإعدام في المعارضين بمصر ليس أمرا مستبعدا من نظام اعتاد سفك الدماء جهارا نهارا، بل لم يتورع عن إحراق الموتى والمصابين، واحترف قتل المعتقلين بالتعذيب تارة وبإهمال مرضاهم تارة وبقنابل الدخان تارة أخرى، إلا أن بقية الرؤية التي يؤمن بها المتابعون تذهب إلى أن التصعيد الثوري إلى الذروة قد يغل يد الانقلاب عن التمادي في هذا الطريق، وهذه السطور تريد أن تقول شيئا آخر، أو تخطو خطوة أخرى إلى الأمام في هذا الأمر، لكن دعنا قبل ذلك نحاول تفسير "الاجتهاد" الجديد للانقلاب في مسلسل مساعيه للمحافظة على وجوده.
فشل الداخل والخارج
لا نستطيع قراءة بعض جديد المشهد المصري دون بعض، أعني بهذا ما سبق تنفيذ حكم الإعدام من تغيير وزاري أطاح بأحد أركان الانقلاب الكبرى، وهو اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية، مع سبعة وزراء آخرين يبدو أن تغييرهم جاء على طريقة "ما عزلتَني، ولكن عزلتْني القافية".وقد تردد أن سبب عزل محمد إبراهيم يرجع إلى رفضه تنفيذ أحكام الإعدام التي تصدرها المحاكم المصرية. غير أن هذا التفسير يبدو بعيدا على قائد أداة القمع والقتل الأولى في مصر (وزارة الداخلية) منذ عام ونصف بكل جد واجتهاد، إلا إننا فسرناه على أن الوزير السابق كان يحاول إيقاف الاستغلال المعتاد من جنرالات الجيش له ولوزارته التي تتحمل عادة أكبر المغارم في قمع المعارضين، ولا تنال إلا أقل الغنائم، إذ ينتهي أكثرها إلى جيوب قادة العسكر.
وإذا كان التتابع الزمني بين تنفيذ حكم الإعدام والتغيير الوزاري قد فرض علينا أن نفسر العلاقة المحتملة بينهما، فإن النظرة العامة لأوضاع الانقلاب تمنحنا أرضية أوسع لفهم ما يحدث، ويمكننا بسهولة أن نلاحظ في هذا الجانب أمرين بارزين:
أولهما: أن خريطة تحالفات الانقلاب بدأت تتحول شيئا ما في غير صالحه، خاصة بعد وصول القيادة السياسية الجديدة للمملكة العربية السعودية بما لها من تأثير معروف، وهو ما هز المعادلة التي كانت تدعم بقاء السلطة الحاكمة الآن في مصر، وأضعف فرصها المستقبلية في الاستمرار. ويمكننا الآن أن نقول إنه لم يبق للنظام المصري حليف حقيقي كامل في المنطقة إلا بنت العم إسرائيل في الشرق وعصابات حفتر الليبية في الغرب، وكلاهما حليف مصلحة ينتظر لمواقفه ثمنا.
الأمر الثاني: ثمة جولات تفاوض كثيرة تدور مع معارضي الانقلاب -في السجون وخارجها، مباشرة وعن طريق وسطاء من الداخل والخارج- بهدف الوصول إلى أي حل يضمن بقاء السلطة الفعلية والامتيازات الاقتصادية الواسعة في يد العسكر، ولو تنازلوا عن كل شيء آخر. إلا أنها لم تلق من هؤلاء المعارضين قبولا، حتى غرد الوزير السابق يحيى حامد أخيرا في تويتر قائلا: "أي تكهنات بقبول أي مصالحة مع نظام (...) السيسي هو وهم، اليوم ثورتنا في موقف الفاعل، وسنستمر، وسيسقط الخائن وعصابته".
كلا الأمرين السابقين يهدد فرص النظام القائم في الاحتفاظ بالسلطة في مصر، حتى صار الطرق باليد الحديدية على بوابتي غزة وليبيا، وافتعال الأزمات على الجبهتين واحدا من الحلول التي تفتق عنها ذهن الانقلاب، أملا في توتير أجواء مصر من الداخل إلى درجة لا تسمح ببقاء أي معارضة في الشارع، أو كما قيل: سعيا إلى تصدير الأزمة خارجيا.
وبالطريقة نفسها يمكننا أن نفسر البدء في تطبيق أحكام الإعدام بمصر على أنه واحد من وسائل الضغط الداخلية على معارضي الانقلاب الذين يرفضون إلى الآن التنازل للعسكر، وقد سبق هذا الأمر تلويح من بعض الإعلاميين الموالين للنظام بأن إعدامات الإخوان ستبدأ بعد المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ.
وإذا كان التلويح النظري بالإعدامات لم يؤثر في معارضي الانقلاب، فلتكن ثمة إعدامات فعلية، ولتبدأ السُّلم من أوله بمواطن متعاطف مع الشرعية ليس من الإخوان، والخطوة التالية التي يتردد الكلام عنها الآن هي إعدام مجموعة المتهمين في أحداث قسم شرطة كرداسة، أو الشباب المحكوم عليهم بالإعدام في قضية مكتب الإرشاد الشهيرة.
وحين نحاول أن نفهم هذا السلوك السياسي في عمومه سنجد أن تاريخ الانقلاب العسكري منذ أُذيع بيانه الأول في الثالث من يوليو/تموز عام 2013 وإلى الآن، هو عبارة عن محاولات متتابعة للحيلولة دون انهياره، وسعي حثيث للإبقاء على حياته، ولا نجد لديه تخطيطا واضحا لإدارة دولة لها سياسات داخلية وخارجية منطقية، ولا نعثر لديه على رؤية واضحة -أو حتى غير واضحة- لتطوير الجهاز الإداري المتهالك للدولة، أو الاستفادة من العوامل الاقتصادية المهملة لإنقاذ مصر من البوار الاقتصادي، أو بناء شراكة اقتصادية فاعلة مع دول المنطقة... إلخ.
وإدارة الكيانات السياسية بهذه الطريقة لا يخفى أنها إن حافظت على وجوه النظام حينا، فإنها لا تلد إلا دولة فاشلة تعجز مع الوقت حتى عن تلبية ضروريات مواطنيها، ولا يمكنها أن تتعاطى في السياسة الدولية باعتبارها ندا لأي طرف، وعلاقة مصر بإثيوبيا في قضية المياه شاهد قوي على هذا.
ومن هنا فإن التصعيد ضد الانقلاب -مع العقبات الجسام والتضحيات الكبيرة المطلوبة- يفرض نفسه فرضا، لا لإسقاط النظام فحسب، ولكن قبل ذلك لإنقاذ الدولة المصرية ذاتها من مصير كالح تنطق به الأرقام المسجلة في شتى النشاطات التي تؤديها الدولة في الداخل والخارج، ومرور الوقت يزيد الأزمة تعقيدا، ويرفع من فاتورة الحل وزمنه المطلوب.
خطوة للأمام
إن الهدف السامي الذي يستهدفه التصعيد الثوري المطلوب ضد الانقلاب من إنقاذ أرواح الأبرياء، ومنع النظام من تطبيق أحكام الإعدام على معارضيه السياسيين، يبقى هدفا فرعيا، ويبدو وكأنه قد غطى على الهدف الأصلي، وهو إنقاذ الدولة نفسها، وإزالة الانقلاب، وإعادة الشرعية كاملة، وما يقترن بذلك من القصاص لكل شهيد، وتطبيق القانون الصارم على كل مجرم.
إن الذهاب إلى أهداف فرعية في مسيرة الثورة المصرية هو لون من الاستدراج بعيدا عن الغاية الأصلية، وصورة من صور اللعب الذي يطيل على الجماهير الثائرة طريقها، ويفتح مع الوقت أفقا أمام الإحباط واليأس ليتمكنا من نفوسها، والفشل في الأهداف الفرعية يقعد بالهمم عن طلب الغايات الأصلية، وأما النجاح في هذه الأخيرة فهو نجاح في كل شيء.
وليست هذه دعوة للتنازل عن حقوق المعتقلين أو دمائهم، بل هي دعوة إلى شغل النظام عنهم، ورفع سقف الاحتجاج ضده، واضطرار له إلى نقل الصراع إلى حلبة يختارها الثوار ولا يفرضها عليهم أحد.
وقد أدرك المعتقلون أنفسهم أن النظام يسعى إلى ملاعبة الثورة بهم، فكتبوا من خلف الأسوار في الذكرى الرابعة لثورة يناير يقولون: "لا تفكروا فينا كثيرا، فلقد بدأنا معا طريقا صعبا وسنكمله معا، حتى نبلغ آخره مهما عتت المحن أو تكاثرت البلاءات.. ".
كاتب وباحث مصري
نبيل الفولي
بعد الإعدام الأول.. كيف يُدار الصراع في مصر؟ 1963