صادفته في المسجد وأنعم الله علينا بإتمام الصلاة, دعوته على فنجان شاهي عدني في مقهى بجانب المسجد إنه أستاذي في ثانوية الجلاء 1973م ثم زميلي في التربية والتعليم, وها نحن معا متقاعدين, نتذكر ذلك الزمن الجميل بتبادل أطراف الحديث مع كل رشفة شاهي عدني ملبن, رن تلفونه بنغمه رومانسية (بيتهوفن) موسيقى كلاسيكية تخاطب الوجدان والمشاعر فالموسيقى مثل الكتب الأدبية الجيدة، تهدئ من يشعر بالانزعاج، وتخاطب أسرار القلوب، وكما قال أفلاطون: إن الموسيقى هي القانون الأخلاقي الذي أدركه الإنسان بفطرته منذ بدايات الخليقة, والموسيقى مثلها مثل أي شيء آخر كالمعلومة والفكرة والكتاب فيها الرديء من الجيد والمسيء من المفيد, كنت حينها أتمنّى أن لا يغلق هذا الصوت ويستمر التلفون في الرنين لتذوق الموسيقى واللحظة التي نعيشها مع الشاهي العدني الملبن وذكريات أستاذي القدير, أجاب على التلفون, وبعد أن أكمل مكالمته طلبت منه إرسال النغمة ذاتها لاستمع لها وقت الحاجة, فإذا بشاب من ذات الحي الذي أعيش فيه طالب في الثانوية, تدخل بقوله ياعم هذا حرام الاستماع للأغاني منكر, نظرت إليه وقلت, هل تقرأ؟ قال اقرأ القرآن, قلت شيء رائع لكنه لا يكفي هل تقرأ كتباً علمية وإنسانية واجتماعية وثقافية, قال لا, فقلت له كيف عرفت أن كل الفن رذيلة وكل موسيقى منكر, قال لي من شيخنا, فقلت له يا بني, هذا أستاذي علمني في الثانوية وأنا أستاذ أيضا ومدير مدرسة ثانوية وتلاميذي يدرسونك اليوم, وأعمارنا تجاوزت الستين, وقرأنا القرآن جيدا ونعرف الله وسنة رسوله الأعظم, وقرأنا كتباً واطلعنا على معلومات, وشاركنا في مؤتمرات وندوات, لنا باع طويل في المعرفة والمعلومة لسنا مصانين من الخطأ لازلنا نبحث عن الجديد, لكن لم نصل بعد إلى مستوى الوعظ للناس في أمور ليست من تخصصنا, بل ممكن أن نبدي رؤانا, لكن لا نجزم أننا على حق, ولا نصر أن الآخرين على باطل تلك أمور بحاجة لمختصين وأساتذة, ولقاءات ومشاورات حتى يصل الجميع لرأي موحد أن ذلك مضر أو مفيد, ما شاء الله عليك أنت أفتيت وحكمت وقررت, لأن شيخك الجاهل لقنك هذه المعلومة وتجرأ للإفتاء في شيء ليس حوله إجماع, وهنا المصيبة .
فبدأت أشعر بخطورة ما كان يدور في خاطري وساهمنا في السكوت عنه, حينما كانت تشاهد حلقات للوعظ في ركن الشارع, محاولات خير من شباب لوعظ زملائهم, خطورتها في غياب الواعظ المؤهل والمؤتمن على تقديم المعلومة الصحيحة, وغياب الرقابة عن تلك الجلسات, وفي هذه الحالة الخطأ والزلة يشكل خطراً جسيم, لأن المتلقي يستوعبها بإيمان وعقيدة, وهي فرصة متاحة لمن يبث سمومه دون رقابة وحساب, فأخطاؤهم تثقل كاهل المجتمع أخطاء تؤدي لإضرار فكرية ونفسية واجتماعية, فيخطئون معتمدين على الحديث (أن أصبت فلك عشر حسنات وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة واحدة) هم يبحثون عن الحسنة ويدمرون مجتمع بأخطائهم الصغيرة, تشويه وتعويق الإنسان فكرا وتفكيرا, يقيدون مستوى تفكير الشباب في حدود ما يسمحون لهم فيه فقط حرام وممنوع تجاوز تلك الحدود, ممنوع أن تسأل, بل عليك أن تحفظ وتقبل التلقين, الحقائق هي ما يملى عليك وغيرها منكرات ومحظورات.
أي أنك تعيش في ظلام فكري وظلمة الحياة, واقع اليوم نتيجة طبيعية لما يحدث من تشوهات للفكر والرؤى والنظرة العامة للحياة والدين.
يجب أن لا يقوم بالوعظ من هو ليس من العلماء؛ لأن ذلك يُؤَدِّي إلى مَفَاسِد كثيرة.. منها: أنّه مخالفةٌ لما جاء في الحديث الشريف.. وذلك أنّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بأن يُؤْكَل كُلُّ أمر إلى من هو أهله، وقال:
"إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانْتَظِرِ الساعةَ" (صحيح البخاري)، كتاب العلم، الباب الثاني، رقم الحديث 59
أخطاء غير محسوبة وتجاهل مما يدور وكم من ناقوس رن ينذر بخطر دون أن نكترث له وسلبيه واللامبالاة من الفرد والمجتمع , والساكت عن الحق شيطان خرس, فتغلغل فكر الجهل بين شبابنا, فكر ظلامي لا يستند لمرجعيات علمية وثقافية ودينية , بل مرجعيته الشارع واجتهاد الجهلة , وينتج لنا فكرا ضلاليا إرهابيا وشباب مسلوب الإرادة فرط بعقلة وفكره لهم, يديرونه حسب هوائهم وأجنداتهم ليخدم أسيادهم, فهل نتنبه لذلك أم نتركه يتغلغل فينا حتى نصبح ضحاياه, وأين ذي الذكر أي المتخصصين في علوم الدين والشريعة والحياة والعلوم الإنسانية مما يجري؟
تصور كل ما حدث ويحدث في عدن ومنابر الذكر في المساجد لا يعنيها, ذلك حتى في الدعاء والترحم على الضحايا وآخرهم دار العجزة في عدن..
أحمد ناصر حميدان
عندما يصبح الجهل واعظا 1563