بعد ثلاث أيام من استشهاد صبري، طلب عم عبده من أحمد أن يشوف من قبله شخص يرعى الأغنام وينتبه للبيت، فهو يرغب يغير جو ويزور بعض أصحابه القدماء..
اقترح له أحمد (الراعي الصغير) وأسرته كخير من يحافظ على البيت، ويجمع الأغنام مع بعض؛ استحسن العم عبده الفكرة.
عندما ذهب أحمد إلى بيت ( فواز) الراعي الصغير وجد الفكرة ناجحة، فالمواجهات اقتربت من بيتهم، وقد قصفت أكثر من مرة وهم يبحثون عن بيت ينزحون لها ولو مؤقتاً، بقى أن يعرض الفكرة على العم عبده لمعرفة كم سيغيب.
وافق العم عبده على الفكرة فوراً، قائلاً: مش مشكلة حتى لو رجعت بكرة أو بعد شهر، سيمكثون نازحين عندي حتى يستتب الأمر.
في الليلة التي سبقت يوم رحيل العم عبده بات بجانبه أحمد.
بقى الراعي العجوز يتحدث عن صبري، وكأن أحمد شخص غريب عن صبري..
يتحدث عن ذكائه ونشاطه وشجاعته وينقل له مواقف وقصص لصبري قائلاً: ما كان أحد مثله سوى شداد وسليمان والقائد نبيل، صاحب صبري مع أن كل من في الجبل أبطال.
ثم فتح (الشنطة) الحديد ليخرج بعض الفلوس التي كان يدخرها، وكانت مبلغا لا بأس به، أعطى نصفه لأحمد الذي رفض بشدة أخذ أي مبلغ، وعندما اصرّ قال العم عبده: خلاص النصف أعطيها للمقاومة والنصف خليه عندك أمانة ولو احتاجت أسرة فواز أعطها، والذي معي كثير يكفيني حتى أعود..
ثم أخرج الوصية التي كتبها لصبري والذي نقلها الأخير بدوره إلى أحمد في حالة استشهاده.
خذ اقرأ يا أحمد.. هذه وصيتي، إذا متُّ.
أحمد مقاطعاً: عمراً مديداً
--اقلك اقلك إذا متّ!
أحمد: يعني افتحها بحسب وصية صبري.
العم عبده:
لا أنا إذا متّ أعطيها لصبري عندما يعود.
كان العم عبده بين الحين والآخر يبدو وكأنه يهذي موكداً أن صبري سيعود؛ كان يعتقد أو يتمنى أنه أحد الأسرى أو ربما يكون الشهيد أحد زميليه، هو يبحث عن أمل، فهو لم يستوعب ومع هذه ففرضيته لا تخلو من المنطق.
- لا يا عم عبده، إذا متّ أنت لا سمح الله، شفتحها أنا لأن صبري الله يرحمه.
يصمت عم عبده ويتحرك لأخذ المصحف من الرف ليقرأ أو يتحزب كعادته قبل النوم.
صباحاً، ودع العم عبده (أحمد)، بعد أن أعطاه المفتاح ليعطيه للراعي الصغير وأسرته وقرب البيت قابل الراعي الصغير كان حاملاً حذاءه بيده مسرعاً كعادة الأطفال الأشقياء.
كان مسرعاً إلى أحمد والعم عبده ليتأكد حول إمكانية نزوحهم..
قال له العم عبده: قل لأمك البيت بيتكم، انتبه للغنم والفراخ والأرانب، ولو احتجتم حاجة اصرفوا، ثم حاول إعطاء الراعي الصغير مالاً، لكنه رفض أن يأخذ فلساً.
قال له: خلاص أنت يا فواز الراعي الصغير بدل الراعي الكبير، الجبل بحاجة إلى راعي يخدم أبطال المقاومة، أنت ضروري تخدم المقاومة وتساعدهم.
لا أنا أيش أساعدهم، أنا مقاوم يا جد!
هههههه يضحك العم عبده: أيوه أنت مقاوم المستقبل أقوى دائماً.
في الطريق قابله الاستاذ عبد الله، الذي حب أن يرافقه إلى منتصف الجبل.. رحب العم بالأستاذ عبدالله، لكنه مشى صامتاً وكأنه ينصت للجبل، اتجه إلى المكان الذي كان يجلس فيه قبل الغروب مع همومه ومهاجل الصيف وحيث الصورة الشهيرة التي يرسمها للمرأة والطفل؛ وصل إلى الصورة وكأنه يودع انساناً أو يزور قبر حبيب، نظر إلى الصورة ثم أخذ ينقره بالعصى بلطف وهو يقول: آه يا (سلمى) ما زلت مشرقة كما أنتِ يا بنت وأنا في الغروب الأخير؛ لكن تعلمين أن الغروب مقدمة الشروق، أعدك سأغرب قريبا لنشرق معاً.
كان الأستاذ/ عبدالله ينصت باهتمام وتأثر، كان أول مرة ينطق باسم (سلمى).
قال له الأستاذ/ عبدالله: من هي سلمى وايش حكايته؟ التفت إليه العم عبده بثقة: الحكاية كلها سأرويها لصبري، أنا وعدته عندما يعود سأخبره بكل الحكايات.
هز الأستاذ/ عبدالله رأسه وهو يتمتم: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم يسأل عم عبده: أنت عند من شتروح؟
-- عند أصحابي.
-- من متى عندك أصحاب وأنا أعرف أنك بالجبل منذ عشرين سنة ما تخرجش؟!!
-- أصحابي من زمان، عشنا عمر قبل أربعين سنة وأكثر..
وأيش عرفك أين هم؟
-- أعرف بعضهم وبيوتهم وهم أعز أصحابي، تصور تلاقينا في ساحة الحرية بـ2011م.
هذه الثورة السلمية أقامت الرقود وأحيت من في القبور.. أنت لا تعرف أن الساحة كانت تعني قتل لليأس الذي خيم وعودة للأمل الذي مات!
الأستاذ: والآن مات من جديد.
العم عبده:
لا لا لا تقل كذه؛ الآن الأمل يكبر، وهذه المقاومة حقكم هي بنت ساحة الحرية، أنا عندي أمل كبير.
-- كيف؟
-- يا بني عندي أمل بل ثقة كاملة، بأن الشعب سينتصر لأن السيل ما يرجعش مطلع.
والنهر المتدفق لا توقفه سدود ولا حواجز!!
-- الأستاذ عبدالله:
الله الله يا دكتور عبده، فعلاً أنت حكاية لابد من معرفتها.
منتظرين عودتك، عم عبده.
أحمد عثمان
راعي في جبل جرة (الأخيرة) 1268