الراهب سبستيان (هندي الجنسية)، الناجي الوحيد من العملية الإرهابية لدار العجزة في عدن، المفرج عنه بعد اختطافه وقتل كل زملائه والراهبات، في حدث مثير للاهتمام يعلن بكل شجاعة رغبته في العودة لعدن لمواصلة دوره الإنساني، قائلاً لست حاقداً ولا غاضبا من الإرهابيين بل مشفق عليهم، ولن يمنعني إرهابهم عن موصلة واجبي الإنساني.
مهما اختلفنا كأعراق وأجناس وعقائد وأديان، توحدنا الإنسانية، وعمنا سبستيان تتفوق فيه إنسانيته على عصبيته، يعلم كم نحن بحاجة لإنسانيته، في بلد تتفوق فيها العصبية عن الإنسانية، ولهذا صرنا نُرهب بعض عقائديا وفكريا وثقافيا واجتماعيا، كل ما يحدث من انتهاكات للإنسانية، في بلدي هو إرهاب وأصحابها إرهابيين، ومن يروج لها من مثقفين وكتاب وصحفيين وسياسيين، هم صانعوا الإرهاب،وحواضنه، ما يبث من كراهية وأحقاد وضغائن، وتزرع في بنية المجتمع من أطفال وشباب في البيت والشارع، يؤسس لإرهابيين المستقبل، يزرع فيهم ثارات ويغذيهم بالعنف والكره للأخر، يهيئهم كأدوات للمستبد الديني والسياسي.
لا أستبعد أن يلومني البعض ويقول مثل هؤلاء يأتون للتنصير، وهذا القول مردود عليه، حيثما يوجد فراغ إنساني سيملأونه، وبعد العملية الإجرامية لدار العجزة، لم نجد من يملأ فراغ الخدمة الإنسانية للعجزة، الخدمة بمعناها الإنساني والروحي، لا كما يراه البعض تقديم الصدقة أو ما تبقى من فتات الولائم، والتطبيب، بل الخدمة للتعامل مع البشر بإنسانية كما وصى بها إسلامنا الحنيف ورسولنا الكريم، ونحن تركناها لنبحث فيما هو عنف وشدة وغلاظه وقوة، لنصنع وحوشا ونفوسا متعفنة وعقولا مرهونة، حيث يمثل الجمال ضعف، التوحش قوة، لنقتل بعض، وتقتل فينا إنسانيتنا.
لو وجدنا شيخا جليلا يقوم بمقام عمنا سبيستيان، لما احتجنا له ولا لراهباته، شيوخنا لا يهتمون لخدمة البشر الضعفاء كالعجزة والأطفال والمرضى المستضعفون بالأرض، شيوخنا منهمكون بالكلام عن الوعظ وحكايات زمان، يأخذون منها ما يخدم توجهاتهم وأفكارهم، يشحن المجتمع بالجهاد ضد الآخر، بعيدا عن الجهاد الإنساني في الحياة والعمل، أصواتهم تصدح المساجد والمنابر، وأين هي أعمالهم اتجاه المستضعفين؟، ما رحم منهم ربي ولهم بصمات إنسانية في الجمعيات الإنسانية والتعليم والإرشاد، الرافضين للعنف، هم اليوم ضحايا الإرهاب من مجاهدي القاعدة وداعش وأخواتها التي لا تفصلهم عنها غير شعرة معاوية، يقتلونا اليوم بمزاج وقتلوا من يخدم العجزة.
الحقيقة المرة أننا أمة مثيره للشفقة غير جديري بالحياة، لازلنا نتقمص دور الضحية، ونستدعي كل ثاراتنا وماسينا وأحقاد الماضي لتكن هي العتاد المسموم في حياتنا السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية والفكرية، استدعيناها من أغوار التاريخ، ومن حاضرنا القريب، ولازلنا نلطم الخدود ونذرف الدموع، لا نستطيع الخروج من تلك الدائرة المفرغة من الألم والأوجاع، بل كلما كثرنا من الهرش على الآلام كلما تعمق الجرح ونزف دما غاليا نحن بحاجة لصونه.
لازال البعض غارقا في وحل 13 يناير وحلفاء 94م، ولازال يقدم نفسه ضحية دون أن يقيم التجربة بحيادية وعلمية ورؤية تصحيح وتجاوز وانطلاق، لا رؤية إثارة النزعات والثارات والأحقاد والضغائن، شحن الشباب الواعد ليحمل أثقال الماضي وعفنه، ليبقى يعيش في وحل من الصراعات لا يخدم الوطن ولا جغرافيا منه بل يجردهم من إنسانيتهم ليتحولون لأدوات لمشروع عفن.
صارت بعض الصحف وكتابها التي تغذي الكراهية وتثير مثل هذه النزعات، مزرية تخط مسار إرهابي سيدينها التاريخ مستقبلا، اليوم هي احد منابر العنف والصراعات السلبية المدمرة ضد الأخر وتجريف الحياة من تنوعها وأدواتها الإنسانية والسياسية، تلطخت كما تلطخ السابقون بدماء الأبرياء.
أنا شخصياً أرحب بعمنا سبستيان في أرضي عدن أيقونة الإنسانية، بلد التنوع والتعايش للأعراق والأجناس والأديان والأفكار والثقافات، عكروها بعصبيتهم، لكنها ستعود رافضة كل العصبيات السلبية القاتلة.