نخسر قضايا، نفشل بمجرد ما نريد أن نظفر، في ظني أنها العقلية التي لم تستوعب القضية، لم تستوعبها بنظرة واسعة كقيمة وهدف وعدل، بل تأخذها بنظرة ضيقة، بضيق أفق ووعي العقلية. في معركتنا ضد النظام العفن، تركنا فراغاً ملأته قوى أكثر عفناً، خسرنا الثورة عندما اعتقدنا أنها مجرد ساحات لترديد الشعارات ونثر أموال، شراء الذمم، والاصطفاف المناطقي الطائفي الأيدلوجي المشحون بالأحقاد والضغائن والكراهية، عقلية مفهوم ثورة لا إصلاح، التي أخذت مجرى جرف الآخر ومعه التاريخ والإرث والتراث بكل حسناته ومساوئه، مما جعل من هذا التجريف معول هدم لإرث ثقافي وسياسي واقتصادي ومؤسسي، فخسرنا الدولة وأعمدتها وأدواتها السياسية والثقافية وخبراتها العلمية، فتصدر المشهد الجهل والغباء والفشل، وعدنا لما قبل الدولة، للمليشيات والمكونات الطارئة التي ولدت من رحم الحرب والصراعات والفساد واحتكار السلطة والقرار والبطش والاعتقال والتفتيش عن النوايا، عدنا للخطاب المتعصب، للتناحر، بل للارتماء في أحضان الاستعمار وأذنابه وأطماعه، بل تحول البعض لمجرد سماسرة يجولون العالم لعرض بيع وطن أو جزءا منه مقابل إبقائهم وكلاء حصريين. كل يوم نكتشف حجم الكارثة التي نحن فيها، كارثة العقلية التي تتصارع فوق رؤوسنا نحن المتطلعين للدولة الوطنية الضامنة للمواطنة والحرية والعدالة، وكل يبحث عن استعادة دولته التي تسيده وتسلطه على رقاب الناس، بحريته التي تقيد حرية الآخرين، وعدالته العرجاء، ومناطقيته وطائفيته النتنة، ينفث سموماً قاتلة للآلفة والتعايش والاحترام، بمقدار ما فيه من كره وحقد وانتقام، كارثة تمزيق لحمة الوطن ونسيجه الاجتماعي، لعدد من المكونات المتناحرة، ذات المصالح الضيقة والفساد العفن، مكونات ببنية الأنظمة السابقة التي أوصلتنا لما نحن فيه اليوم، أنظمة عفا عنها الزمن وبعقلية تجاوزها العصر. خسرنا الثورة بالانقلاب، وخسرنا المعركة الثقافية والفكرية، لصالح معركتهم المناطقية والطائفية، خسرنا التصالح والتسامح، لصالح أحقادهم وانتقاماتهم، خسرنا الخطاب التجديدي الديني والسياسي والثقافي، لصالح الخطاب المتشنج المناطقي والطائفي القذر، ولازلنا نخسر.. واذا استمرينا على نفس الطريق سنخسر كل قضايانا العادلة، سنخسر المواطنة والحرية والتعايش والسلام، لصالح التمايز العرقي والمناطقي وتقييد الحريات والكراهية والحرب التي ستدمرنا، حينها لا ينفع الندم. كان لدينا شرعية، معترف بها دولياً، كانت بالنسبة لنا قيمة ومبدأ استعادة الدولة الضامنة للمواطنة والحريات والعدالة، التي ستقرر مصير الأمة بإرادة شعبية وصندوق استفتاء وانتخاب، لا استطاعت أن تكون شرعية وتكون حاملا جيدا ومثاليا لهذا المشروع، ولا استطاعت الأطراف الأخرى أن تكون دافعا قويا لترسيخ هذا المشروع، مشروع يحتاج للحجة والشعبية، والكل فاقد لهما ويعتقد أنه قادر على فرض نفسه بالعنف، والتدليس والإشاعات والأكاذيب والشيطنة والترويج أنه المنقذ من مؤامرة كبيرة تحاك للوطن، وأنه محارب جيد لهذه المؤامرة. اليوم.. لا نرى غير مشاريع تدميرية صغيرة، مشاريع احتكارية سخيفة، لا نرى غير وكلاء يبحثون عن قوى استعمارية طامعة تدعمهم مقابل أن يقدموا لها التسهيلات لتلك الأطماع، مشاريع تتكون على شكل مكونات انتقالية وائتلافية، لا يهم التسمية والهدف واحد، مشاريع فاشلة، لن تنجح بل ستطيل من استمرار الأزمة وتزيد من حجم التحديات والتضحيات، وسينتهي بها المقام لمزبلة التاريخ كغيرها من المشاريع السابقة، لأن الشعب الحي والواعي اليوم ينتفض، وسينتفض حتى يحقق تطلعاته، وتتساقط كل الأوراق المحروقة ويبقى وطن حر عزيز كريم شامخ السيادة والإرادة.
أحمد ناصر حميدان
لا انتقالي ولا ائتلافي أريد وطناً متعافياً 1289