لأبطال سبتمبر وما سبقها من محاولات تغيير سحر خاص؛ شغف يجعل القارئ لا يكاد يترك صفحة مما نقل عنها حتى يبحث عن أخرى. أقصد هنا الحكايات والقصص الحقيقية، وليس تلك المزورة التي دست لتشويه أكثر لحظات تاريخنا إشراقاً. في مكان ما، وعند البعض، تيقظ الرغبة في التغيير قنوط النفس.. وعند البعض الآخر، تنبت شيئاً من نبوة. قد تقابل ثائر مقطب الجبين يقاتل- مع تشاؤمه- ليالٍ حالكة، يصرعها حيناً من الدهر؛ ويقف مستسلماً لها حيناً آخر. وفي الطرف المقابل، ستجد آخر، لا يخلو من تصميم وإرادة حالمة، يستمع لتنهيدات الطيور في السماء، رغم القضبان التي تقيده، لتسمعه يتغنى في وطنه: الشاعرية في روائع سحرها أنت الذي سويتَّها وصنعتَها
مالي بها جهدٌ، فأنت سكبتَها بدمي، وأنت بمهجتي أودعتَها
أنت الذي بشذاكَ قد عطرتَها ونشرتَها بين الورى وأذعتَها
وقَفَتْ لساني في هواك غناءَها فإذا تغنت في سواكَ قطعتُها حلّت قبل أيام الذكرى الثالثة والخمسين لاغتيال أبي الأحرار الشاعر المناضل "محمد محمود الزبيري"، بعد حكاية كفاح مثيرة، سعى فيها نحو ما رءاه البعض جنونا في ذلك الوقت، واعتبره هو "بركة" يستحق أن يحيا ويموت من أجلها.. وُلدّ الزبيري بحي البساتين في صنعاء، عام 1911.. نشأ في المدينة يتيمًا وتعّلَم القرآن وحفظه صغيراً؛ تنقل في تلقي العلم بين المدرسة العلمية والجامع الكبير، ومكة المكرمة بعد أداء مناسك الحج فيها، قبل أن ينتقل الى مصر عام 1939. بقي الزبيري بضع سنوات في القاهرة، مؤسساً- مع رفاقه- "كتيبة الشباب اليمني"، الحركة المعارضة الأولى لحكم الإمام، قبل أن يقطع دراسته ويعود إلى اليمن، التي كانت- كما يرى- بحاجة إليه ولغيره، عام 1942، وما أن وضع قدميه عليها حتى هتف: ماذا دهى قحطان، في لحظاتهم؛ بؤس، وفي كلماتــهم آلام؟..
جهل وأمراض وظلم فادح؛ ومخافة ومجاعة و"إمام".. لكل ثائر حكايته الخاصة؛ طريقته في إيصال صوته للناس.. يختار البعض الاجتماعات السرية، والآخر يفضل استقطاب النخبة، والأقل هو من يجاهر بما في نفسه.. وقد اختار الزبيري المجاهرة بالكلمة والأدب. استرجع هنا إحدى مقولاته: "كنت أحس إحساساً أسطورياً بأنني قادر بالأدب وحده على أن أقوض ألف عام من الفساد والظلم والطغيان". أدرك شاعرنا مبكراً أن الكلمة هي الحلقة المفقودة بين اليمني وشعبه، بعد أن سطا جهل الإمامة على اليمن مئات السنين وصنع- خلالها- ديناً يناسب بقائها.. وما أن وصل إلى صنعاء، حتى بحث عن منبر لينشر كلماته وأدبه، ولم يجد أفضل من خطبة جمعة في الجامع الكبير ليلقيها دون خوف؛ لكن ذلك الفعل لم يمر على الداهية، القابع بالقصر، مرور الكرام. فأمر بحبس الزبيري بتهمة إثارة التفكير، وتهديد الجهل العام وازدراء الحماقة. ربما كانت ليالي السجن، مفترق طُرق لإفراز الثائر القوي.. لا يغادرها للحياة سوى شخصان؛ أحدهما خلَعّ ثوريته واختار طريق السلامة بعد أن تلاشت ثقته مع لياليها المظلمة وانتابته الهواجس من جدوى ما يقوم به؛ وآخر يرفع عن قاعها ما سقط عن غيره، ليضعه على كتفه همة وعزم، تساعده على إكمال طريقه. وقد أفرزت سجون الإمام الكثير من الأبطال الذين استمروا في محاولة التغيير. فلم يكد الزبيري يخرج من السجن حتى هتف متحديًا: خرجنا من السجن شمّ الأنوف، كما تخرج الأسد من غابها..
نمر على شفرات السيوف، ونأتي المنية من بابها.. أعاد الشاعر، ورفاقه، النظر في ولي العهد، بعد أن بدى لهم سيره على نهج والده. فر الزبيري ببعض رفاقه في مدينة عدن، منبر الحرية، ولم تتوقف دعواته عن التغيير. فهناك ثورة قادمة، ينبغي أن تكون، مهما وزع الليل عزلته وكوابيسه، وقامت ثورة الدستور عام 1948، ليعود الزبيري إلى صنعاء غير مصدق للإنجاز الذي تم. كان الزبيري يتنقل فوق طائرته من بلد إلى آخر لطلب العون، والاعتراف بالجمهورية، التي حلم بها طويلا، قبل أن يُخذل من الخارج، وتقتل ثورته الوليدة على يد الإمام أحمد، الذي حاصر صنعاء مع القبائل، قبل أن يستبيحها ويجز رؤوس المشاركين بالثورة والمؤيدين لها على حد سيوفه. أنا راقبت دفن فرحتنا الكبــرى، وشاهدت مصرع الابتسامة..
ورأيت الشعب الذي نزع القيــد، وأبقى جذوره في الإمامة..
وإذا بالطبوب عادت طبولاً، وإذا بالفطيم يلغي فطامه..
وإذا بالدستور يصرعه البغــي، ويلقي كصانعيه حِمامه..
وإذا الشعب بعدما حطم الأصفاد عنه، لم نلق إلا حطامه..
نحن شئنا قيامه لفخار، فأراه الطغاة هول القيامة.. حتى هنا، تبقى الحكاية تقليدية، وليس على ذلك الشريد المطارد سوى إفراغ غضبه، أو البوح بأوجاعه على أقل تقدير؛ فما مر به لم يكن سهلا أو هينا، بعد أن ذابت أحلامه وقطعت به السبل وفقد كل شيء، إلا أنه يفاجئ ساردي الحكايات وهو ينشد: كفرتُ بعزمتي الصامدة، وقدسية الغضبة الحاقدة..
وأنّات قلبي تحت الخطوب!، وأحلامه الحية الصاعدة..
وعمرِ شبابٍ نذرت به، لشعبي وأهدافه الخالدة..
وبالشهداء وأرواحهم، تراقبني من علٍ شاهده..
إذا أنا أيدت حكم الطغاة، وهادنتهم ساعة واحدهة.. ما هذا الرجل، غريب أمره؟!، مازال، رغم ما حدث، ينذر بروحه فداء لهذا الشعب؟! لماذا لم يصرخ؟!، أو يخرج جزء من الغضب، الذي ولابد أن يكون قد سكن روحه؟! لم يلم أحد من قارئي التاريخ، الثلايا، الذي صب لعناته على الشعب من وسط ساحة الإعدام، حين هتف: "لعن الله شعباً أردت له الحياة وأراد لي الموت"؛ لكن الزبيري استبدل تلك اللعنات بلغة مختلفة، لعل من يأتي بعده يفهم الدرس ويعيه: ورؤوس الأبطال، يلهو وليد القصر، لهواً بها، وتلهو وليده..
والمحاذير والمخاوف تغتال، الضحايا المفجوعة المفؤودة..
والقنوط الوحشي يفترس الأحرار، في ظلمة السجون البعيدة..
ألمح الشعب قابعاً يدرس الثورة، كيما يأتي بأخرى جديده..
يتحرى الأخطاء ويغفر للأحرار، أخطاءهم ليبقوا جنوده..
أي حالم ساذج كان، برغم المآسي التي شاهدها بأم عينيه، إلا أنه رأى الشعب، المهلل للظلم، يعد العدة لثورة جديدة.. على ماذا كان يراهن؟! وما هي الأساسات التي بنى عليها تلك الثقة؟! هل امتلك عيناً ثالثة، أم أن ما تنبأ به لم يكن سوى هذيان حالم يرجوه؟! لم يتوقف الزبيري عند هذيانه، بل قام بتحويلها الى أفعال، بعد قيام ثورة يوليو 1952، وانتقاله من باكستان الى مصر، ليقيم الرجل منبراً جديداً، يوصل بها القصائد تلو الأخرى، والمقالات التي تليها مقالات، عبر الإذاعات المتاحة أمامه، حتى أمسى للمعارضة، أخيراً، صوتا مسموعا، ومطالب حقيقية لمن كان يجهلها.. ومرت السنوات سريعاً، وكسب الزبيري الرهان، وقام الشعب بثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة.
وانتهت الحكاية!! كلا، لم تنتهِ بعد... يبدو أن الزبيري كان صعب المراس. لم يقبل أن تفقد كلمته بريقها تحت سقوف المكاتب والوظائف الرسمية، خاصة بعد انحراف الثورة عن مسارها، وانشغال الثوار عن الشعب بأمور الدولة، فقدم استقالته من وظيفة الحكومة، التي كانت كافية لختام حياته بطريقة مُرضيه، وعاد ليواجه معركة تثبيت الجمهورية بخطابات أهابت بالشريعة والعروبة، وحددت مكمن الوجع في عقر دار الإمامة، والمناطق التي تدين لها بالولاء: "إن الذين يؤمنون بالعنصرية، هم الذين يدافعون عن الفوارق والامتيازات، التي تفصل بينهم وبين سائر فئات الشعب لا طبقاته، ويصرون على أن يتميزوا على الشعب وينفردوا عنه بحقوق سياسية واجتماعية، كأنهم لا يقبلون أن يكونوا في عداد أبنائه، ولا في مستوى إنساني كمستوى إنسانيته. هذه النزعة المغالية هي النزعة العنصرية، وهي أخطر شيء على الهاشميين وعلى مستقبلهم، سواء عاشوا في اليمن، أو في أي قطر عربي آخر". لم يكن الإنصاف، يوماً، من شيم النهايات، خاصة بعد شعور أعداء الثورة بخطر الزبيري، الذي أوصلهم إلى الاختباء في الجبال، فكان لابد أن تنتهي حياته ليتخلصوا من عبئه.. وتم اغتياله ضمن أحد جولاته للمصالحة بين القبائل، في يوم أسود، مازالت اليمن تبكيه حتى اليوم على لسان البردوني: من مات؟ واستحيا السؤالُ.. وأطرق الردٌّ الخجولُ..
أهُنا "الزبيريُّ" المضرّجُ؟،، بل هنا شعب قتيلُ..
وأعادت القممُ الحكايةَ، واستعادتها السهولُ".. ما الذي جعل الزبيري مختلفاً عن غيره حتى اليوم، لتلتحق الدعوات له بالرحمة عبر لسان كل يمني، رغم أنه لم يكن الأقوى أو الأكثر بلاغة وجاذبية؟! أعتقد بأن ما ميزه عن غيره، كان إيمانه المطلق بهذا الشعب. حتى وهو يعاتبه، ستجده ليناً لطيفا في عتابه، وكأن الشعب حبيبته التي يخشى حزنها وبكائها، وبرغم سلبيات تلك الحبيبة، التي ورثتها عبر ألف عام من البؤس، مازالت في عينيه الجميلة، أمُّ الحضارات التي ستعيد مجدها، ما أن تنتفض. من سخرية الأقدار، أن صورة اليوم لم تختلف كثيرا عن الماضي الذي غيره الزبيري ورفاقه، إلا من مفارقات بعض الظلال. فالشعب، في وقتنا الحالي، هو من يبحث عن قائد أو ثائر يؤمن به، يستجدي الصدق ويرجوه، بعد أن أحاطته ضجة زائفة لا حقيقة فيها.