يراودني الصمت أحياناً عن الحديث والكتابة عما يجري في اليمن .. الشعور بعدم جدوى الحديث عن مخاطر ما يحاك ضد هذا البلد يمثل إحباطاً سيما حين تتحدث عن مخاطر المتغيرات وعواقبها الوخيمة على مستقبل الدولة الشرعية ومؤسساتها، وكيف يتم تفكيك ما تبقى من هذه المؤسسات وآخرها المخاطر التي تهدد بحل مؤسسة البرلمان اليمني.
وفي هكذا وضع متشابك تغيب عنه الرؤية والمشروع الوطني للقوى السياسية التي قبلت لنفسها أن تكون ملحقاً لمشاريع أخرى.. تدفع باليمن نحو هاوية التقسيم والتمزق لصناعة دويلة الكنتونات المسلحة يبعث على الأسى والمرارة ويخلق نتوءات في مسار العمل الوطني تدفع به إلى هاوية لاقرار لها, لاسمح الله.
فالحقيقة المُرّة أن الجميع وبلا استثناء أصبح شريكاً في محاصرة وإضعاف أهم مؤسسات الشرعية على الإطلاق.
والحديث الذي أقصده هنا يتمثل في محاصرة المؤسسة العسكرية, الدرع الواقي والحامي لما تبقى من الجمهورية وآخر آمال هذا الشعب في مقاومة المشاريع الطائفية والمناطقية والعنصرية والاستعمارية.
من يتخيل هنا أو يصدق أن هناك حكومة لاتخوض حرباً وجودية مع مليشيات انقلابية تهدد وجودها وشرعية قيادتها لولا وحدة الجيش وما يقدمه من تضحيات ودماء لأبطال ترسخ في وجدانهم قيم الانتماء الوطني وهم من قياداته وضباطه وجنوده من يتصدون لتلك المليشيات دفاعاً عن الجمهورية وعن شرعية هذه الحكومة التي لا تدخر جهداً في التآمر على هذه المؤسسة العسكرية البطلة.
وإذاً فالحديث عما قامت به الحكومة وما تقوم به من حصار واستهداف ممنهج للجيش الوطني والمؤسسة الأمنية والمقاومة الشعبية أصبح ضرورة وواجباً وطنياً مهما كانت المخاطر وتبعات كشف هذه المؤامرة الأكثر قذارة من كل الانقلابات التي واجهها الجيش الوطني منذ حروب صعدة وحتى اليوم.
وسردية هذه المؤامرة سأبدأ الحديث عنها بأول لقاء لي جمعني ببعض قيادات الجيش الوطني في بدايات العام 2018 بعضهم قد غادر هذه الحياة شهيداً مجيداً في جبهات العز والشرف..
هذا اللقاء الذي كان مقيلا غلب عليه نقاشات عميقة حول مشاكل الجيش المالية والإدارية. في هذا اللقاء بقيت منصتاً مستمعاً تسيطر عليّ حالة الذهول..
كانت أبرز تلك المشاكل تتمحور في النقاط التالية:
ا- عدم التزام الحكومة بصرف مرتبات الجيش بشكل منتظم
ب- رفض الحكومة اعتماد مرتبات المجندين الجدد بدلاً عن الشهداء والجرحى المقعدين
ج-رفض الحكومة اعتماد التغذية الكافية للجيش الوطني
د- عدم اعتماد الحكومة للعلاوات المستحقة للترقيات الخاصة بضباط الجيش
هذه المشاكل والكثير منها كانت تشغل قيادة الجيش بسبب تبعاتها الميدانية على الجنود وآثارها المؤلمة على نفسياتهم وهم يخوضون أشرس مواجهة مع الحوثيين دفاعاً عن الوطن والدين والعرض.
ولقد وصل الحال ببعض قادة الألوية أن رفضوا استلام مرتبات الجنود بسبب عدم إضافة المجندين الجدد استعاضة عن الشهداء والجرحى المقعدين حتى لاتهتز النفسيات ويبقى الصمود على أشده.
في نهاية المقيل وقبل مغادرتي طلبت الإذن بالحديث وتحدثت قائلًا: إنني كنت أتوقع أن أسمع من كبار قادة الجيش حديثاً ونقاشاً عن خطط تحرير صنعاء وباقي المحافظات،
أما الحديث عن هذه المشاكل المالية والإدارية فهي من مهام ومسؤولية الحكومة أن تحل هذه المشاكل عن طريق مالية وزارة الدفاع ووزارة المالية والبنك المركزي.
فليس من مهمة القائد في المعركة أن يترك إدارة المعركة ويبحث عن مرتبات جنوده طالما وهناك حكومة مسؤولة عن توفير متطلبات المعركة.
وقلتها لهم بكل وضوح: إن من أغرقكم في هذه المشاكل قد وضع اللبنة الأولى للمؤامرة على الجيش وإيقاف تقدمه نحو صنعاء .
والحقيقة التي أكدها الواقع أن تداعيات هذه المشاكل التي افتعلتها الحكومة كانت نتائجها كارثية على أداء الجيش والتي مازالت تمضي بمنهجية تدميرية حتى هذه اللحظة.
والحديث عن مبرر وجود فساد وجيش وهمي وكشوفات وهمية ليس سوى حديث تفاهة يستهدف تشويه الجيش الوطني كذريعة أمام الرأي العام.
والجميع يعرف أن محاربة الفساد لا تأتي بقطع رواتب الجيش ووقف مصاريف الجيش التشغيلية وعرقلة مستحقات أسر الشهداء والجرحى .. بل يأتي عبر تشكيل لجان تحقيق من جهات الاختصاص ومحاسبة من يثبت تورطه في سرقة مرتبات الجنود أو تغذيتهم.
كما أن الحديث عن الفساد داخل وزارة الدفاع لا أدري من أي باب يمكن مناقشته, وزارة لا تستلم مرتبات جنودها بانتظام, لا يعتمد لها مصاريف تشغيلية لإدارة المعركة, لايوجد لهيئاتها اعتمادات مصاريف تشغيلية.
ومن ثم يتم الحديث عن الفساد، تلك إذاً لعبة قذرة تتم في وضح النهار وبجرأة لايقدر عليها أحد سوى حكومة العبث السياسي.
على الحكومة أولاً أن تصرف كل تلك الحقوق والمصروفات المتعلقة بإدارة المعركة وتكفي هذا الجيش ما يحتاجه من تغذية وبدلات عسكرية تقية برد الشتاء وحر الصيف.
ومن ثم ونحن معها نذهب للحديث عن الفساد داخل مؤسسة هذا الجيش.
شخصياً تحدثتُ مع الدكتور معين عبدالملك منذ توليه رئاسة الحكومة حول مشاكل الجيش وأهمية اتخاذ الإجراءات السريعة لحلها. وإلى اليوم لانجد غير مواعيد عرقوب.
والأشد مضاضة أن هذا الحصار الذي فُرض على الجيش من قبل الحكومة يأتي متزامناً مع فتح التحالف معسكرات للتجنيد بمرتبات مغرية.. بل لم يكتف التحالف بذلك فقد قام بتشكيل لجان لاستقطاب أفراد الجيش الوطني من الجبهات ومن المعسكرات ونقلهم إلى جبهات الحدود في محور صعدة.
لن أتحدث عن تفاصيل قيام التحالف بصرف ألف ريال سعودي مقابل كل جندي يتم استقطابه لجبهات الحدود من معسكرات الجيش في نهم والجوف ومأرب ومحافظة تعز والبيضاء فذلك حديث يطول.
هذا المشهد الذي بدأ تدشينه بمنهجية في العام 2018 مازال مستمراً حتى اليوم ومع مرور هذه السنوات زاد الخناق على الجيش بسبب هبوط قيمة العملة وارتفاع الأسعار. لتكون هذه المعضلة إضافه ثقيلة يتحملها الجيش دون تدخل من الحكومة لمعالجتها.
والأمر لا يحتاج إلى فراسة في هذا الأمر فالكل يسمع عن إقرار الحكومة لتسويات غلاء معيشة لكل قطاعات الحكومة ماعدا الجيش الوطني أو المؤسسة العسكرية والأمنية.
فبدلاً من إقرار تسوية غلاء معيشة لذلك الجندي الذي يتقاضى 60 ألفاً ذهبت الحكومة لتسوية مرتبات القطاعات المدنية التي تصرف مرتباتها بالعملة الصعبة أو تلك التي يتقاضى أصغر موظفيها 250 ألف ريال.
والحقيقة المرة أن الحكومة برئاسة معين عبدالملك لم تكتف بعدم تسوية وضع أفراد الجيش مقابل غلاء المعيشة.. بل ذهب الدكتور معين عبدالملك وبأمر مباشر منه - وفقاً للمعلومات التي وصلتني - إلى خصم مليار ونصف مليار من مرتبات الجيش الوطني.
يبدو أن الهدف من هذه الخطوة هي زيادة تعقيد أزمة الجيش الوطني المالية حتى يصل إلى مرحلة أعمق وأشد معاناة.
هذا الجيش - أقولها بثقة راسخة - يمتلك قيادة جسورة صابرة متحملة أعباء تكسر كاهل الجبال, وإن ضباط وأفراد هذا الجيش والمقاومة هم معجزات هذا الشعب في الصبر وتحمل الضيم .
في اليمن وحدها يستشهد القائد وبعده تكتشف أن تغذية ومصاريف الوحدة التي كان يتولاها ديون شخصية عليه.
القائد في الجيش اليمني ليس منصباً ترفياً .. بل مسؤولية عظيمة .
هذا القائد حين يطالب بتغذية جنوده ويتفاجأ أن حكومته أوقفتها لأسباب مجهولة .. يذهب ليتصرف وفق ما تقتضيه مسؤوليته .
هؤلاء القادة لو لم يكونوا مؤمنين بقداسة المعركة مقبلين للتضحية أمثال القادة الشهداء الشدادي والوائلي وأبو منير وشعلان والحاضري وعبدالغني سلمان وغيرهم كثير ,
لكانوا تركوا مناصبهم القيادية حتى تتوفر لهم الإمكانات المطلوبة .
كنتُ في نقاش مع أحد الوزراء حول أداء وزارته فكان يشكو من عدم توفر ميزانية تشغيلية ..
ووصل النقاش إلى أهمية توفير مبلغ لا يتجاوز مرتب اثنين من وكلاء وزارته لعمل مهم ..
اقترحتُ عليه إمكانية توفير المبلغ من خلال تفاهمه مع بعض الجهات المحلية حتى يتكمن من صرف المبلغ من الحكومة ..
كان رده: لماذا أدخل وجهي وأتحمل أموال الآخرين, إذا الحكومة تريد إنجاز العمل عليها توفير الإمكانات مالم فلستُ مسؤولاً عن إنجاز ذلك العمل.
هنا عليكم أن تتخيلوا لو أن قادة الجيش تعاملوا بنفس عقلية هذا الوزير الذي يتقاضى مرتباً شهرياً يتجاوز 8 آلاف دولار عوضاً عن الاعتمادات وبدل السفر والسكن.
لو تعامل قادة الجيش وضباطه وأفراده بعقلية هذا الوزير لكانت هذه الحكومة وكل مناطق الشرعية في خبر كان.
وأقول هنا: إن مرتكز الصمود والنصر في معركتنا الوجودية لهزيمة الانقلاب الإيراني تكمن في إيمان القادة عسكريين كانوا أو مدنيين بقداسة هذه القضية والمعركة متسلحين بروح التضحية.
وإنها لمفارقة عجيبة غريبة أن تجد البواسل يعيشون في العراء يذودون عن وطن، بينما رجال الدولة يرتعون في فنادق فارهة وشاليهات صيفية .
البواسل يعانون من حر القيض وبرد الشتاء، وحكومة الرفاهية بمكيفات لماركات عالمية تستمتع بالوقت وتلهو بوطن.
البواسل يتعرضون لحرها ووقيدها من كل ناحية قذائف اللهب تطالهم، وحكومتنا الرشيدة والساسة من أحزاب وتعددية سياسية يسيحون في الأرض ويعيشون حالات استجمام وصيف هادئ وشتاء دافئ.
البواسل تقطع رواتبهم, يحاصرون في لقمة عيشهم، بينما الحكومة ومن لف لفها يعيشون ترف المسئولية وموائد عامرة بما لذ وطاب.
البواسل يتكئون على حجر وينامون في مترس، وحكومتهم وساستهم ينامون في مخادع وثيرة ونمارق مصفوفة وعلى وسائد من ريش النعام.
بين البواسل والحكومة مابين الأرض السماء. الحكومة من باهت القول وزيف القرار واستخذاء خذلان،، والجيش من صمود وبسالة وتصدٍ لمشاريع فارس.
الحكومة قراراتها مستلبة ومرتهنة، والبواسل قرارهم بندقيتهم وفوهة مدفع وصبرهم وجلدهم.
هذه الحكومة صممت خصيصاً للنيل من البواسل، لكنهم (أي البواسل) أعصاب فولاذية وقوة إرادة. الحكومة تراهن على هزيمتهم وخذلانهم، بينما الجيش يراهن على الانتصار واجتراح المعجزات.
الحكومة تعيش فعل المؤامرة جهاراً نهاراً، والجيش يخرج من هذا الفعل الدنيء معززاً بقوة الصمود وتحدي الظروف وقهر المستحيل.
رافد الحكومة والساسة الخذلان للجيش، ورافد الجيش تعزيز قدرات المواجهة والانتصار للوطن رغم مكائد أولي الأمر.
الحكومة تبحث عن ثغرات تخترعها في صفوف حراس الوطن بينما الأشاوس يبحثون عن ردم هوة مايتعرضون له من مؤامرات متعددة الاتجاهات.
الحكومة والساسة وقادة الأحزاب يناضلون من أجل زيادة أموالهم وتنامي مدخراتهم، والبواسل يناضلون من دمائهم ومن البحث عن زيادة المؤونة العسكرية وكيف يواجهون عدواً شرساً.
لا هذه الحكومة تابت من فعالها السيئة، ولا الجيش قبل بالخنوع والاستسلام. الحكومة نفدت حيلها في المؤامرات، وما نفد صبر الجيش في المواجهة وصدقية إيمانه وعزيمته في اجتراح النصر. كأن الحكومة هذه نكد وطن لولا الحراس الأوفياء يشعلون جذوة الأمل في أبناء الوطن.
الحكومة وقادة الأحزاب والساسة من وهم وخبالات ودسائس ومؤامرات. والجيش من تصميم وقوة تحمل وعقيدة قتالية وبأس شديد في مواجهة الأعداء.
هذه الحكومة كالحة وطعمها مالح كأنها الدمار المعد سلفا للوطن. والجيش هو الجدار الكبير، الحصن الحصين، الفعل الذي لايكل من أجل الوطن معافى ومنتصراً. لا الحكومة ثابت إلى رشدها، ولا الجيش قبل بالتنازل عن وطن.
كلا الفريقين على مفترق طرق, الحكومة انهزام وخذلان وحالة إحباط وارتهان وتنفيذ مؤامرة، والجيش يعزز وجوده يراهن على العلياء، يخترق مجالات المستحيل، يسطر أنصع صفحات البطولة، يقدم الحياة من أجل أن يكون الوطن سالماً منعماً.
تباً للحكومة وأربابها ومن سار في فلكها من قادة أحزاب وساسة ارتهان.. وحيا الله البواسل, من يغمرون الأفق بالانتصار ويصنعون المعجزات وشعارهم (تباً للمستحيل) غايتهم النصر الكامل, استعادة العاصمة صنعاء وهزيمة الانقلاب مهما كان حجم المؤامرات والخذلان.