لم يتخلّف المُقاتل الصنديد والقائد الشجاع اللواء الركن ناصر علي الذيباني، أبو منير، عن معركة خلال ست سنوات، مشاركاً بنفسه وبندقيته في خطوط التماس وفي الخطط والتكتيك الحربي وإدارة العمليات القتالية. كان صوته وصولاته واسمه يُصيب العدو بالذعر والفزع، لدرجة أن الأعداء أعلنوا عشرات المرات شائعات رحيله مع كل مرة كان يتعرض لإصابة، وكم هي الإصابات التي ملأت جسده والمرات التي نجا منها من الموت المحقق.
عرفته في نهايات العام 2015 وهو مرابط في غرف العمليات والسيطرة، ومنذ وطأت قدمه أرض مأرب لم يغادرها يوماً إلا جريحاً من إصابة بليغة أو مريضاً أو معتمراً.
تشرّب البطل معاني الحرية والكرامة وقيم الولاء والانتماء للوطن والأرض من طفولته، وهو سليل أسرة توارثت النضال والتضحية، ومثلما كان موسوعة في العلوم والخبرة العسكرية فقد كان واسع الثقافة والاطلاع ثابت العقيدة والانتماء للوطن والهوية.
رجل الحرب والحرف والحرفية، وقلّ أن تجتمع لرجل مثله. الناصر الذي عاش مُنتصرا، عابرا للصفات والمناصب، وكان بحضوره المهاب وقربه من الجند أكبر من كل المسميات.
خَبِر الحروب منذ أول أيام التحاقه بالخدمة العسكرية قبل 35 عاماً، مُتنقلاً بين مراحل ومنعطفات المعارك الوطنية وميادين النزال؛ حاضرا في صفوفها الأولى مُقاتلاً ببأس لا يعتريه يأس.
بطلنا الذيباني هو أحد أهم أعمدة المؤسسة العسكرية اليمنية الأكثر ولاء لليمن والعروبة والأصلب عقيدة وانتماء، الكتلة الوطنية التي تحارب المشروع الإيراني وأدواته الإمامية الكهنوتية.
في عام 2012 كان بطلنا يجلس على منصة كلية الدفاع الوطني بصنعاء مناقشاً رسالته الموسومة (الخطر والأطماع الفارسية في الجزيرة العربية)، كان الرجل لا يزال عائداً من جبال صعدة وعمران التي خاض فيها معارك ضد الحوثي في جولاتها الست.
تجسدت لديه معاني العسكرية وتقاليدها وقوانينها التي كانت تجري في دمه، فكان خير جندي وخير قائد، عاش وفياً للشرف والقسم الذي أقسمه، لم يخن أو يتخاذل يوماً عن واجبه. حفظ للعسكرية هيبتها وللجندية حقها وللقيادة شرفها، ليكون مدرسة في الانضباط والالتزام.
الضابط القادم من صفوف (الحرس الجمهوري سابقا) ومن قلب مؤسسة الجيش التي احترف دستور العسكرية وقواعدها من مدارسها ومتارسها وأكاديمياتها، حائزاً شهائدها العلمية وشهاداتها الميدانية، مؤمناً بلوائحها المؤسسية وتراتبيتها القيادية وضوابطها الإدارية.
في غير مرة، تلقى أنباء قرارات تعيينه وهو في الخطوط الأمامية، وفي مرات كثيرة تلقى قرارات إقالته وإعفائه من منصبه ومهامه بينما يقف في مترسه، بيته المفضل، ويذهب صباح اليوم التالي ليسلم القيادة وما في ذمته من العُهد والموجودات ويوقع على محضر التسليم والاستلام، ثم يغادر قاعة المراسيم عائداً إلى المترس الذي يجد فيه قيمته كجندي وقائد لم تستهويه المكاتب والمناضد مقتنعاً بأن الترقيات الحقيقية والمراتب الرفيعة في قلوب الجنود وسرائرهم وحيازة حبهم وثقتهم.
لم يتمرد يوما ولا مرة على قرار ولم يرفض أوامر ولا تعليمات، ومثلما سلّم قيادة اللواء 133 ودائرة العمليات الحربية 2017 للقائد الخلف بكل سلاسة، سلّم قيادة المنطقة العسكرية السابعة 2018 بكامل ملاكاتها المادية والبشرية، وفعل ذات الأمر بتسليم المنطقة الثالثة 2020.
ليلة ال26 من سبتمبر 2017 كان أبو منير في أعلى قمم نهم ملتقطاً بذكائه مقترحاً قدمته له وصعد إلى أعلى مرتفع ليوقد شعلة ثورية أضاءت سماء صنعاء، هذا التقليد الرمزي تحول بعدئذ إلى عادة عيدية سبتمبرية في مختلف جبهات القتال.
تمكن العدو يوماً من تطويق اللواء الذيباني ومن معه في إحدى معارك الصحراء، ذخّروا أسلحتهم واخترقوا صفوف العدو ودخلوا في اشتباك متحرك مع سرعة الأطقم، وبعد خروجهم من الكمين كان أحد مرافقيه شهيداً على ظهر الطقم وأربعة جرحى ينزفون توجه بهم إلى المستشفى بنفسه.
في إحدى المرات توقف أبومنير وأفراده بجوار قرية في منطقة بعيدة وقت الظهيرة، خرج كبار القرية يدعونه للغداء في ضيافتهم، اعتذر الرجل وافترش الأرض وتناول وجباته اليابسة المفضلة مع جنوده، وقد عرفوه المحارب الشجاع والقائد الإنسان، الأقرب إلى قلوبهم يتلمس أحوالهم ويضمد جراحهم وهمومهم ويتفقد مهماتهم ومهامهم.
وفي إحدى الواقعات تلفّت الأبطال يتلمسون قائدهم، كان قد سبقهم وشق طريقه إلى خلف خطوط العدو ليتقدموا نحوه ويتقدم نحوهم، على رؤوس الأعداء.
في إحدى معارك الكسارة، وفي جنح الظلام اختلطت الوجوه وتداخلت البنادق ووصلت حد المواجهة طعناً وبالحجارة، وقبل طلوع الفجر كان أبو منير قد هب لنجدة المقاتلين، وحين كادت المعركة أن تنتهي اكتشف الأبطال أن القائد قد أخذ موقعا متقدما في عمق منطقة العدو، استجمعوا قواهم وتقدموا محرزين نصراً جديداً.
أصيب القائد يوماً في إحدى معارك أطراف مأرب، وبقي يقاتل مع جنوده، وحين بات في خطر اضطر أربعة ضباط لركوب المدرعة وتقدموا نحوه وأخذوه مكرهاً إلى داخلها ونقلوه إلى المستشفى.
في كل مرة كان الأعداء يعلنون استشهاده، يُثخن الرجل فيهم فيعودون لنشر الشائعات، وكل مرة يبعث لي مبشراً بنصر ومحفزاً للمعنوية.
اكتب له "مش قالوا إنك شهيد!"، فيرد سائلاً الله الشهادة.
وحين بلغني نبأ استشهاده قبل يومين انتظرت رسالته كالعادة. لكنها لم تصل هذه المرة، ليست ككل المرات. لقد استراح البطل.
هذه النهاية المشرفة لا تليق إلا بعظماء مثله، لينام شامخا مثل نسر جمهوري هصور لم يبرح كوفيته وكتفيه، محلقا في العلى والاعالي والقمم التي ألفها وألفته.
رحل ناصر الجمهورية ونصيرها، وعنوان انتصارها ومعنى أهدافها السبتمبرية الخالدة، ليبقى صوته يجلجل في آذان الأبطال وستبقى بصماته سيرة جارية لرفاقه وللمُحاربين الأحرار من بعده.
-عن موقع 26 سبتمبر نت.
(المقال منشور بتاريخ 15 ديسمبر 2021)