نعرف البردوني جيداً، وعينا على شعره، وحفظناه منذ البواكير وكبرنا جوار قصائده ودواوينه، وظل يقودنا لأكثر من خمسين سنة في عوالم الدهشة فاتحاً قلوبنا وأبصارنا على ما لا يحد من السحر والإبداع والجمال .
نعرف البردوني إلى درجة يستحيل أن نخطئه أو يلتبس علينا أمره وذلك لأننا عرفنا أنفسنا أكثر من خلاله وفي مرايا شعره رأينا وجوهنا المربدة وملامحنا المرهقة وتفاصيلنا وأحلامنا وأسانا العميق وغربتنا الممتدة
البردوني غير قابل للتزوير أو التزييف عصي على السطو والانتحال .
البردوني لا يمكن أن يقول " ليس عندي سوى أسى زاوياتي" زاوياتي هذه ممكن تكون ضمن قاموس عظيمان لا البردوني،
ولا هذه تشبهه :
" علَّها ساعة الجدار تَشَهَّتْ
فدعتكِ اصعدي على تَكْتَكَاتي
ويح قلبي، نأيتُ عنها وعنِّي
كنتُ أسري في الـ"حَا" إلى نحنحاتي "
ولا هذه الطامة :
هل تجاوزتُ كلَّ حيٍّ، أأبكي
أم أغني كي يهتدي ميقاتي؟
يا "متى" يا "إلى" ويَا "كَمْ" سأصغي
للذي لا يُقال أو لا يـُمَاتي
ولا هذه الوصمة :
وأتى بعد ليلتين ويومٍ
دارَ بالدارِ من جميع الجهاتِ
قال (هِرٌّ): منَّا إلينا تُوافي،
حَوَماني بالصَّحْبِ مِن تسليات
يا للهول
" دار بالدار من جميع الجهات "
هل يمكن أن تكون هذه بردونية؟
لا نحتاج لكثير من النباهة كي نكتشف ضحالة القصيدة وكي ندرك استحالة أن تكون للبردوني
أفضى البردوني في آخر سني حياته للبعض بحديث عن ديوانين أخيرين تم مصادرتهما وهما؛ "رحلة ابن من شاب قرناها" و"العشق فوق مرافئ القمر". وفي حوار لي معه لـ"الشاهد" اللندنية في العام ١٩٩٨ رفقة الزميل سعيد ثابت ذكر هذين الديوانين وقال وهو يبتسم متهكما لقد طبعا في قبرص لكن السلطة صادرتهما . وسألته إن كان يحتفظ بمسودتي الديوان لم يجب ولاحظت حرصه على تجاوز الأمر .
وما زال الغموض يلف هذا الموضوع حتى اليوم ولا شيء واضح على الإطلاق، وكل ما هنالك مجرد كلام لا ينبني عليه شعر .
ويقيني أن زعم الحوثيين عثورهم على الديوانين وإعلانهم تبني نشرهما ليس إلا كذبة كبرى مفضوحة بدليل هذه القصيدة بادية الزيف والتصنع المنشورة باعتبارها من " رحلة ابن من شاب قرناها ".
من الواضح أن لدى الحوثة مشروع تدليس باسم شاعر اليمن الكبير تحت غطاء الديوانين المفقودين، ولا نستبعد تجنيدهم لشعراء باليومية من ساقطي الموهبة والروح الذين يعتاشون على موائد الكبار ويقدمون أنفسهم كمزورين بلهاء قابلين للتأجير .
علاقة الحوثة والبردوني لا يمكن أن تكون سوية ونزيهة فشاعرنا الجمهوري العتيد ضدهم موقفا ورؤية وشعره منذ كان ضد دعاواهم وخرافاتهم الماضية والحاضرة وضد كل ما يمثلونه ويدعون إليه. وتفصح خطوتهم هذه عن الكثير مما يريب .
نحن مسؤولون عن حماية رموزنا وعدم السماح باستخدامهم على هذا النحو وإبقائهم في مأمن من غوائل الرثاثة والانحطاط المعمم، ومهم أن يتحرك النقاد والكتاب والأدباء لمواجهة مثل هذه العمليات التي تستهدف تقويض الوعي والذاكرة وضرب الحساسية الفنية والإبداعية ونسف الذائقة والمعيارية وتحطيم القامات الملهمة وتحويلها إلى أدوات في خدمة مشروع الخراب
لم أحتمل عرض المزيد من الأبيات الملفقة، ولم أرد إغضاب شاعرنا الكبير والإساءة لمقامه أكثر من ذلك .