إيران، التي رفعت راية “المقاومة” منذ عقود في وجه إسرائيل، تجد نفسها اليوم على مفترق طرق بعدما قدمت قرابين من الصف الأول في “محور المقاومة”. خسرت قادة بارزين مثل قاسم سليماني ورموز أخرى، ولم يكن الرد بالمستوى الذي توقعه البعض. رغم التصريحات الحادة والتهديدات بالانتقام، اتسمت ردود الفعل الإيرانية بالتردد والانتظار، ما يثير التساؤلات حول استمرارية النظام الإيراني وكيفية الحفاظ عليه في ظل هذه الضغوط.
إسرائيل من جهتها، تستمر في تنفيذ عمليات اغتيال واستهداف لمواقع دبلوماسية وعسكرية إيرانية وحلفائها في سوريا والعراق ولبنان، وحتى اليمن. ورغم أن إيران أرسلت رسائل إلى وكلائها الإقليميين مثل حزب الله والحشد الشعبي في العراق وجماعة أنصار الله الحوثيين في اليمن للرد، إلا أن تلك الردود لم تكن بالمستوى الذي يتناسب مع حجم الخسائر التي تعرضت لها طهران.
الدولة العميقة: اللاعب الخفي في إيران
من الواضح اليوم أن القرار في إيران لا يقتصر على القيادة السياسية والدينية المعلنة، بل تُدار البلاد من قِبل شبكة واسعة من المصالح التي تضم رجال دين نافذين، ضباطًا عسكريين، رجال أعمال، تجارًا، وعلماء ذوي نفوذ داخلي وخارجي. هؤلاء الفاعلون في الدولة العميقة يسعون للحفاظ على استمرارية النظام مهما كان الثمن، حتى لو كان ذلك يعني تقديم تنازلات على مستوى الردود العسكرية أو السياسية على الاستفزازات الخارجية.
العمليات الأخيرة التي نفذتها إسرائيل، مثل اغتيال قادة الصف الأول في الحرس الثوري واستهداف مواقع دبلوماسية إيرانية في الخارج، تعكس مدى عمق الاختراقات الأمنية التي تعاني منها إيران. ورغم ذلك، يظل الرد الإيراني متحفظًا، مما يعزز نظرية أن الدولة العميقة تخشى الانجرار إلى مواجهة عسكرية غير متكافئة قد تُعرض مصالحها للخطر.
اغتيال إسماعيل هنية في طهران: نقطة تحول في الصراع
في خطوة غير مسبوقة، نفذت إسرائيل عملية اغتيال استهدفت رئيس حركة حماس، إسماعيل هنية، في قلب طهران. هذه العملية الجريئة زادت من تعقيد الموقف، حيث انتظر العالم العربي والإسلامي ردًا حاسمًا من إيران على هذا الاستفزاز المباشر. ورغم حجم العملية وأهميتها، فضلت إيران إرسال إشارات غير مباشرة من خلال وكلائها في المنطقة، مثل حزب الله والحشد الشعبي، بدلاً من الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل.
هذا الاغتيال يعكس مدى تغلغل إسرائيل وقدرتها على تنفيذ عمليات معقدة حتى في مناطق يُفترض أنها محصنة أمنيًا مثل العاصمة الإيرانية.
الاختراقات الأمنية: البيجر وحرب التكنولوجيا
حادثة استخدام أجهزة البيجر لتحديد مواقع قادة حزب الله وقتل العشرات منهم تعتبر نقطة تحول في الحرب الإسرائيلية ضد محور المقاومة. تمكنت إسرائيل من استغلال التكنولوجيا لتوجيه ضربات دقيقة ومؤثرة، وهو ما يظهر تفوقها في هذا المجال. هذه الأجهزة، التي تم شحنها للحزب من قبل شركات مرتبطة بإسرائيل دون علمهم، أثبتت أنها وسيلة فعالة في تنفيذ عمليات اغتيال واسعة النطاق. وبعد هذا الهجوم، دعا أمين حزب الله أعضاءه إلى التخلي عن جميع وسائل الاتصال، بما في ذلك البيجر، تفاديًا للمزيد من الخسائر.
هذا التطور يسلط الضوء على مدى اعتماد إسرائيل على التكنولوجيا في حربها ضد المقاومة، وهو ما يضعف الموقف الإيراني وحلفائه في لبنان واليمن وسوريا.
الجواسيس الإسرائيليون: أداة إسرائيل الفعالة
إسرائيل كانت ولا تزال تعتمد على شبكات الجواسيس لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في الشرق الأوسط. في السابق، كانت الجاسوسية تقتصر على أفراد معدودين يتم تدريبهم بشكل مكثف للعمل في الدول العربية مثل مصر وسوريا. لكن في الوقت الحالي، أصبحت إسرائيل تعتمد على شبكات جواسيس واسعة داخل الأنظمة المستهدفة، بما في ذلك النظام الإيراني.
التقارير تشير إلى أن الجواسيس الإسرائيليين تمكّنوا من اختراق مواقع حساسة داخل إيران، وصولاً إلى الدوائر الداخلية لحزب الله اللبناني وحتى جماعة الحوثيين في اليمن. هذا الاختراق لا يقتصر على الجانب العسكري فقط، بل يمتد إلى البنية التحتية والأمنية، ما يجعل إسرائيل قادرة على تنفيذ ضربات دقيقة واستهداف شخصيات هامة دون أن تتعرض لخسائر كبيرة.
استغلال التكنولوجيا الحديثة في الصراع مع العرب
منذ تأسيسها، جعلت إسرائيل من التكنولوجيا ركيزة أساسية في سياساتها العسكرية والاستخباراتية. واليوم، تستخدم هذه القدرات التكنولوجية في الصراع ضد محور المقاومة بشكل فعال. اغتيال القادة واستهداف المواقع الحيوية يأتي عبر استخدام أدوات متطورة، مثل الطائرات المسيّرة، البرمجيات المتقدمة، وأنظمة الاتصالات التي تساعدها في تنفيذ ضربات دقيقة بأقل تكلفة ممكنة.
إسرائيل لا تعتمد فقط على التكنولوجيا في الحروب التقليدية، بل تجند جواسيسها بشكل فعال داخل الدول العربية والإسلامية، مما يعطيها اليد العليا في هذا الصراع. المثال الأبرز على ذلك هو عمليات التجسس التي طالت إيران وحزب الله اللبناني وحتى الحوثيين في اليمن، والتي ساعدتها في تنفيذ عمليات دقيقة واغتيالات متتابعة.
اغتيال حسن نصر الله: انقسام الشارع العربي
أثار اغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، ردود فعل متباينة في العالم العربي. بعد سنوات من كونه رمزًا للمقاومة ضد إسرائيل، قُتل نصر الله في عملية دقيقة أثارت مشاعر مختلطة بين الشعوب. هناك من فرحوا بمقتله، خاصة في سوريا واليمن، متهمين حزب الله بالتورط في دعم النظام السوري والحوثيين في اليمن بالسلاح والمقاتلين. في المقابل، يرى آخرون أن مقتله يعد خسارة كبرى لمحور المقاومة الذي كان نصر الله أحد أهم رموزه على مدى سنوات طويلة.
هذا الانقسام يعكس تعقيد المشهد السياسي في المنطقة، حيث تتداخل الاعتبارات الإقليمية والمحلية لتشكيل موقف متباين من هذه العملية.
إسرائيل وجماعة الحوثيين: التهديدات القادمة
في خضم التصعيد العسكري والسياسي، بدأت إسرائيل في توجيه تهديدات مباشرة لجماعة أنصار الله الحوثيين في اليمن. الجماعة، التي تعتبر جزءًا أساسيًا من محور المقاومة المدعوم إيرانيًا، بدأت تجد نفسها تحت المجهر الإسرائيلي. ومع تزايد التقارير عن دعم إيراني متواصل للحوثيين بالسلاح والتكنولوجيا، بدأت إسرائيل تشير إلى إمكانية استهداف قيادات الحوثيين بشكل مباشر.
إسرائيل ترى في الحوثيين تهديدًا محتملاً لأمنها القومي، خاصة مع تطور قدراتهم الصاروخية والطائرات المسيّرة التي قد تصل إلى العمق الإسرائيلي. هذا التهديد لم يعد مجرد احتمال، بل أصبح جزءًا من خطط إسرائيل للتعامل مع التهديدات القادمة من اليمن، والتي قد تطال قواعدها العسكرية أو مراكز حيوية في المستقبل القريب.
مصلحة النظام الإيراني في تجنب التصعيد المباشر
رغم كل التهديدات والضغوط المتزايدة، تواصل إيران نهجها في التعامل مع الاستفزازات الإسرائيلية بحذر. الدولة العميقة في إيران تدرك أن التصعيد العسكري المباشر مع إسرائيل قد يجلب تدخلاً أمريكيًا مباشرًا، وهو ما يسعى النظام لتجنبه بأي ثمن. بدلاً من ذلك، تفضل إيران استخدام وكلائها في المنطقة للرد بطرق غير مباشرة، مع الاحتفاظ بإمكانية الحوار أو التوصل إلى تسوية في نهاية المطاف.
ورغم تفوق إسرائيل التكنولوجي والعسكري، تظل طهران حريصة على الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة دون الانجرار إلى مواجهة شاملة. هذا النهج الحذر قد يكون محبطًا للبعض داخل إيران وخارجها، لكنه يعكس حرص النظام على البقاء واستمرارية نفوذه، حتى وإن تطلب ذلك تقديم المزيد من “القرابين” على مذبح المصالح الإقليمية.