في اليوم السادس من شهر ديسمبر من عام 2024 اتفقنا مع الإخوة قادة أحرار الشام وعلى رأسهم الأخ عامر الشيخ أبي عبيدة أمير الحركة ونائبه الأخ المهندس أحمد الدالاتي أبي محمد الشامي على زيارة مدينة حماة. كان الحماس قد استبدّ بي، بين مصدق لما سيحصل بعد ساعات بزيارة مدينة أبي الفداء، تلك المدينة التي غدت أيقونة للمظلومين والمضطهدين على مدى أربعة عقود تقريباً في وجه أعتى قوى الأرض ظلماً واضطهاداً وإجراماً، وبين مكذب بحكم التاريخ الذي ران على تفكيرنا من أن هذا الظلم لا شاطئ له، لكن ها هم أبطال بنو أمية يصلون إلى ساحله وشاطئه، ويضعون حداً لبحر من الظلمات أراده لنا أعداؤنا، فيحققوا حُلم مروان حديد ومحمد الحامد وسعيد حوى وعدنان سعد الدين و عبد الستار الزعيم وآلاف ممن رحلوا، وهم يحلمون بهذه اللحظة التاريخية التي لن تجد لها مثيلاً إلاّ في الفتوحات الغابرة.
تحركنا من تفتناز الحبيبة بعدة سيارات باتجاه آفس ثم سراقب، حيث الدمار يحكي قصص مغول العصر وكل عصر من العصابات الإيرانية الإرهابية الطائفية التي عاثت فساداً وخراباً، فليس هناك شيء يدل على آثارهم سوى الفساد والإفساد وتخريب البيوت وتدمير القرى والبلدات، التي تحوّلت إلى مدن أشباح خالية من البشر وحتى الحيوانات، فالكل لفظهم ولفظ حكمهم وحتى العيش معهم.
كان مدخل المدينة الصامدة في وجه التتار من قبل، والصامدة في وجه أحفادهم من عصابات أسد الحشاشين يحكي ألف قصة وحكاية، فعلى يمين مدخل المدينة الشماء، تُصادفك بلدة قمحاني التي كانت عقدة العقد يوم فتح المجاهدون حماة، حيث دارت معارك طاحنة هنا مع مليشياتها التي استعصمت فيها، فاستماتت في الدفاع عنها، ثم كانت العقدة الثانية على يسار مدخل المدينة جبل زين العابدين والذي تم فتحه بفضل دماء وأشلاء أبطال الفتح، فرحمهم الله وتقبلهم في عليائه شهداء مع أنبيائه وشهدائه وصالحيه وحسن أولئك رفيقا.
ومع كل خطوة نتقدم بها نحو حماة الحبيبة، نستشعر أن القلوب تهفو إليها قبل أن تصلها الأجساد. تصادفنا البوابة الرائعة لمدينة حماة، توقف الموكب، لنترجل منه ونسجد لله شكراً على ما أنعم وفضّل، وعلى ما أعطى فأدهش، فتذكرت تلك الأبيات الرائعة التي أرسلتها لي زوجتي الغالية الدكتورة رغد الجاجي ابنة الدكتور الرائع الراحل الذي لطالما حلم بهذه اللحظة محمد ديب الجاجي، تقول الأبيات:
وتشاء أنت من البشائر قطرة
ويشاء ربك ان يغيثك بالمطر
وتشاء أنت من الأماني نجمة
ويشاء ربك أن يناولك القمر
وتشاء أنت من الحياه غنيمه
ويشاء ربك أن يسوق لك الدرر
وتظل تسعي جاهدا في همة
والله يعطي من يشاء لمن شكر
على جنبات الأوستراد الرئيسي في مدخل المدينة كانت الدبابات المدمرة والمحطمة والتي خرجت عن الطريق فوقفت على جزيرة الأوستراد، وعلى رصيفه، تحكي قصص الهروب العشوائي الفوضوي، الذي لجأت إليه عصابات الأسد، بينما البزات العسكري قد خُلعت ونزعت من على الأجساد لتغطي الطريق، وقد ديست الرتب والنياشين، تحت أقدام الفاتحين، في حين كانت الجثث المتفحمة لعصابات أسد، قد انتشرت على جنبات الطريق، وقد غُطيت بالبطانيات، تمهيداً لجمعها لاحقاً في شاحنات صغيرة ودفنها جماعياً خارج البلدة.
فتح حماة كان له شعور خاص، وجو خاص، وطقوس خاصة، فالأطفال في الشوارع، تدفقوا يوزعون الحلوى على الجميع، بينما الشباب منهمكون في إطلاق النار احتفاءً بالفتح الكبير الذي لطالما عاشوا من أجل لحظته هذه، وباعتقادي أعظم الشعراء والأدباء والفنانين سيعجز على رسم لوحات ذلك الفتح المبين، وهو الفتح الذي لا أعتقد مرّ على السوريين في تاريخهم القديم والحديث.
النساء كن يزغردن من على شرفات المنازل، فلا يتوقفن عن الزغردة احتفاءً بالفتح الذي كسر صمتهم، وعرّفهم على أصواتهم المبحوحة لعقود، وكسر معه خوفهم من عصابات استبدت بالوطن كله. تقدمت باتجاه ساحة العاصي، لم نكن نجد مطرحاً لأقدامنا من كثرة الذين تدفقوا على هذه الساحة، لإغاظة الأسد وعصاباته، وإظهاراً للفرحة الكبرى التي طالما انتظروها.
في ساحة العاصي وعند النواعير كنت تلقى كل من فقدته منذ الثمانينيات، فهنا الشباب من أنجال الجيل القديم وقد امتشقوا سلاحهم، يتصورون عند النواعير ليرسلوا صورهم إلى من وراءهم خارج الحدود، ليؤكدوا لهم صدق فتح المدينة.
وبينما نحن راجعون إلى مبنى قيادة الشرطة لتسجيل مقابلة مع الأخ عامر الشيخ قائد أحرار الشام، كان الأطفال يجرون تمثالاً للمجرم المقبور حافظ أسد ويدوسون عليه، وهو المنظر الذي كان مرعباً وغير متخيل قبل يوم واحد فقط.
تذكرت هنا ما رواه لي الزميل الصحافي البريطاني روبرت فيسك مراسل صحيفة الاندبندنت البريطانية يومها، والذي دخل المدينة في اليوم الثاني أو الثالث لمجزرتها في فبراير/ شباط 1982 ونقل عن المجرم القاتل رفعت الأسد أنه مع قواته سرايا الدفاع المكونة من 12 ألف مجرم الذين هاجموا المدين، قد قتلوا 38 ألف من أهالي البلدة، ولا زلت أتذكر كيف روى لي روبرت فيسك الذي قابلته في إسلام آباد بعد المجزرة بعقدين تقريباً عن هول ما رأى وحجم الدمار والخراب الذي عايشه.
ولا زلت أتذكر ما نقله الكاتب الفرنسي المعروف ميشال سورا في كتابة الدولة المتوحشة عن حافظ الأسد بعد مجزرة حماة، حيث جمع ضباطه وكبار القتلة قائلاً لهم لقد مهدت لكم الطريق لحكم سوريا لمائتي عام، ولكن خاب ظنه وطاش سهمه ببركة الشام وبركة أبطالها اليوم الذين فتحوها.
أثناء وجودنا في حماة، كانت الأخبار قد بدأت ترد عن الإفراج عن الطيار الحموي رغيد الططري، الذي تمكن الثوار من تحريره من سجن صيدنايا، بعد أن قضى 43 سنة لرفضه قصف مدينته خلال المجزرة 1982، وقد كرمه أهالي المدينة بتقديم سيف له نظير مواقفه المشرفة، بينما عاد عبد الحفيظ ا شقيق عبد الستار الزعيم أحد قادة الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في سوريا والذي وقف بوجه عصابات حافظ في الثمانينيات، بعد غياب دام نصف قرن ليلتقي والدته التي بلغت المائة عام، وكان عبد الحفيظ اليد اليمني للشيخ مروان حديد مؤسس التنظيم.
لنصر حماة طعم خاص لا يعرفه إلاّ من عايش الجرائم التي ارتكبت بحق هذه المدينة الصامدة المصابرة المقاومة، ثم عاش لحظات الفتح، فاللهم مكّن لجنودك في الشام، واجعلهم من حملة لواء نبيك في هذه الدنيا، واجعل هذا الفتح مغناطيس جذب لوحدة الشام وأهلها.