في الظلام أتحسس كبرياء بلد يهان، أتلمس إرادة وطنية مشتعلة في مواجهة بقايا العتمة، أبحث عن قرار أخير ساطع يوقف هذا الإنطفاء المذل.
ضوء الشمعة لا يكفي لاجتياز باقي المسافة، لا يكفي لكي نبقى مضائين، نعمل، نفكر نتحاور باستنارة.
الفجر بعيدا يلوح، والعتمة تسكن الروح، تعرش في العيون، تسمل الحلم تكبل الأمل تجثم فوق صدور المدائن، تسحلنا بانتظام، تخنق نور اليقين بأن دجى قد رحل وأن زمانا منيرا أطل.
الكهرباء اختبار وجود ممض، التمرغ اليومي في العتمة، الانقطاعات التي تضعنا خارج الحياة والزمن، سحق متواصل لكرامة المواطن والوطن.. كم يكون المهان؟ وكم يحتاج لكي يموت أو يميت المهانة داخله كي يواصل الإنسحاق ؟ كم يحتاج من النور كي يثور على كل هذا الواقع الشائه المقيت بعتماته المتكاثفة ؟.
مدائننا، قرى كبيرة تغرق في الظلام والتخلف والحرمان، صورة الدولة تبدو في وضع مدائننا المنهكة والمستنزفة، حيث الحياة متوقفة لصالح الفساد، وكل ما يهدد المجتمع المدني والحياة المدنية.
على حطام المدن يرفع التخلف رايته، ينشر ظله على كل الفضاءات خانقاً كل بواعث التمدن، مصادراً مدنية الوعي والسلوك، مدنية الثقافة والممارسة.
مدننا الكبيرة في اليمن لازالت هدفاً للتحطيم، ساحات مطالب أولية، وميادين صراعات بدائية، تعيش هم الأساسيات، الكهرباء، الماء، الصحة، الطرق، النظافة، ضعف البنى التحتية والافتقار إلى مستوى يليق من الخدمات، أوضاع تعكس نفسها على الفعالية والحضور، تؤدي إلى إعاقة التغيير، وإعادة إنتاج الاستبداد والفساد، تؤدي إلى تأخر الوعي الحاضن للتحولات الكبيرة.
ماذا يعني أن تصير عدن مدينة مطفأة تغرق في الظلام والفوضى والعرق والأسى الثقيل؟ ماذا يعني أن تعاني تعز ويلات الحصار وأدواء الإهمال؟
حتى ونحن في حالة حرب، يجب أن لا ندع مدائننا تسقط من الداخل، من المهم أن تبقى روح المدن عامرة، تقاوم الدمار والخراب، وتكافح تشوهات، وأدواء الصراع ، معتصمة برمزياتها ومحتمية بكل بواعث الصحة وأسباب البقاء، الأصل أن تكون المدينة شيئاً آخر، تمنحك شعوراً عارماً بالكينونة وتزيد من قدرتك على الفعل والمبادرة، وتوسع أمامك خيارات الوجود الحر وأسباب البقاء، وبما يؤكد الحضور الجمعي المدني على كل المستويات.
المدن في اليمن تحتاج إلى تمدين، و إعادة إنعاش لروحها المدنية المحتضرة. تغيب الدولة تبعا لغياب الحواضر، ومن المهم أن تتشبث المدن بمدنيتها، وتقاوم سياسات التقويض والتوجهات الفوضوية التي تجعلها ساحات صراع واحتراب وخوف وذعر ورعب ومعاناة يومية وشكاوى مريرة لا تتوقف.
مدننا المطفأة الذاوية والشاحبة النادبة، أحياء قتيلة، وشوارع من أسى ودموع، وعلى تلك الصورة الكثيفة المفزعة للشاعر يحيى الحمادي
الريح تمسك ذيلها وتدورُ
والناس تركض خلفها والدورُ