د. محمد أحمد عبدالله الزهيري *
الفساد والظلم والانحراف لا يبررون الخروج ولن تصلح الوضع، وقد ارشد الشارع الحكيم إلى وسائل الاصلاح والتغيير السليم، وهي وسائل ناجحة في ايجاد مجتمع مثالي يعرف الانسان ماله وما عليه فيؤديه، حتى ان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- تولى القضاء لابي بكر سنة ثم جاء يقدم استقالته، فقال له ابو بكر- رضي الله عنه: أضاق بك العمل اتحتاج إلى معاونيين؟ فقال: لا! ولكننا في مجتمع يعرف الانسان ما له فيأخذه وما عليه فيعطيه فلا يحتاج إلى قاض لم ترفع لي قضية واحدة..
واهم وسائل الاصلاح هي:
1- النصيحة: كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «الدين النصيحة، قلنا :لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم» وائمة المسلمين هم الحكام وولاة الامر الذين هم نتاج المجتمع وثمرته فان كان المجتمع صالحا فسيكونون صالحين وان كان المجتمع فاسدا فسيكونون فاسدين، كما تكونوا يولى عليكم، والله تعالى يقول: «ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا» والانسان يتأثر ويؤثر فالمؤمنون نصحة والكفار غششة، والانسان قد يخفى عليه الحق والاولى لا سيما ولي الامر المحاط بالحجاب والبطانة السيئة، وقد يراجع فيرجع كما في نصيحة خولة بنت ثعلبة لعمر بن الخطاب في مسألة المهر وتحديده، فقالت: اعطانا الله الكثير وتعطينا القليل إذ يقول : «وآتيتم احداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئاً اتأخذونه بهتانا واثما مبينا»، فقال -رضي الله عنه- اصابت امرأة واخطأ عمر، وقد يشتبه الامر فيبين كما في قصة عمر- رضي الله عنه- حينما خطب فقال: ايها الناس! اسمعوا واطيعوا، فقال له رجل: لا سمع ولا طاعة! فقال عمر: لماذا؟ فقال :لأن لنا من ثوب ولك ثوبان، فقال الخليفة: اين عبدالله بن عمر؟ فقام عبدالله فقال :ان عمر رجل ايد فأعطيته ثوبي، فقال الرجل:الآن سمع وطاعة. وقد يحصل الظلم والجور والانحراف، فهنا يأتي دور الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي عده الرسول- صلى الله عليه وسلم- اعظم الجهاد، فقال : «اعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» وعد مقتله على ذلك اعظم شهادة فقال: «اعظم الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل قام إلى امام جائر فنهاه عن ظلمه فقتله»، والحق وهو الحق يحتاج إلى بيان وايضاح من اصحاب الكلمة والعلم وهي زكاة العلم والوجاهة، وقد اخذ الله العهد والميثاق على هؤلاء ان يبينونه للناس ولا يكتمونه، فقال : «وإذ اخذنا ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه» وفي ذلك اعذار إلى الله باداء الامانة كما قال تعالى : «لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا اليما قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يرجعون»، كما ان فيه اقامة الحجة لله على الناس: «رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل» ورب كلمة قد تحسم فتنة كما حسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتنة الأوس والخزرج والانصار والمهاجرين بكلمة وحسم الصديق الاختلاف حول الخلافة وموت النبي وانفاذ بعث اسامة ومقاتلة مانعي الزكاة بكلمة، والامثلة كثيرة نقتطف منها مثالين للعظة والعبرة:-
المثال الاول: خطبة سهيل بن عمر في اهل مكة والطائف حينما اراد بعضه الغوغاء الردة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام سهيل خطيبا فقال: ايها الناس! لقد آمنا وصدقنا فمن ارتد ضربنا عنقه. فلم يرتد احد من المدينتين.
المثال الثاني: للمهاجر بن عمر خطيب هجر حينما حدثت الردة وكانت هجر في وسط بلاد المرتدين واراد بعض الغوغاء المتسرعين الردة، لأن الناس في كل فتنة يتقسمون ثلاثة اصناف: صنف مسارع للفتنة، وصنف ثابت على الايمان، وصنف مذبذب ينتظر لمن له الغلبة فينضم إليه، فانتظر اهل هجر يوم الجمعة وصعد الخطيب فلم يزد على ان قال اشهد ان لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله، ثم نزل وصلى بالناس فلم يرتد احد من اهل هجر، وحاصرها المرتدون حصارا شديدا، وحاول ابو بكر الصديق نجدتها وفك الحصار عنها فأرسل جيشا بقيادة عكرمة بن ابي جهل- رضي الله عنه- لكنه انكسر وظلت صامدة تحت الحصار حتى جاء جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد- رضي الله عنه- ففك عنها الحصار، فاين اصحاب الاخلاص والقدوة الذين يقولون الحق لا يخافون في الله لومة لائم.
2- الصبر: فالصبر سلاح عظيم لا يعدله شيء، فمن اراد معية الله وتوفيقه فعليه بالصبر، قال تعالى :«واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين» وتشتمل الآية على لفتة لطيفة وهي ان الله تعالى جعل معيته مع الصابرين ولم يقل مع المصلين مع ان الصلاة افضل واقرب، ومن اراد الامامة في الدين فعليه بالصبر «وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا» اي بسبب صبرهم، وقد فسر ذلك الامام الشافعي فقال: بالصبر واليقين تنال الامامة في الدين، ولقد احسن من قال:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
ومن اراد النصر فعليه بالصبر كما قال- صلى الله عليه وسلم- : «واعلم ان النصر من الصبر» ومن اراد رد كيد العدو والحاسد فعليه بالصبر، قال تعالى : «وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا» وقد احسن من قال:
اصبر على كيد الحسود
فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل نفسها
إن لم تجد ما تأكله
ومن اراد الجنة فعليه بالصبر، قال تعالى :« ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا متى نصر الله ألا ان نصر الله قريب»، ومن اراد الخير وتحقق الاماني فعليه بالصبر، قال تعالى :« وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم»، وقد قيل: فما انقادت الآمال إلا لصابر.
3- الدعاء فالدعاء سلاح عظيم اغفله الكثير من المسلمين مع ان الانبياء والمرسلين واتباعهم كانوا يستعملون سلاح الدعاء في كل حال حتى في الطاعة كان اصحابها يلجأون إلى الله والتضرع، فهذا ابراهيم واسماعيل يبنيان اعظم بيت في الارض وهو المسجد الحرام ومع ذلك يدعوان الله ان يتقبل منهما فقال تعالى: «وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم»، وطالوت ومن معه في جهادهم لجالوت يستفتحون بالدعاء :«ربنا افرغ علينا صبرا وثبت اقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين» وكل نبي قد استعان على قومه وكفرهم وتكذيبهم بالدعاء فأهلكهم الله، وقد حكى ذلك رسول الهدى محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- فقال : «انه كان لكل نبي دعوة مستجابة وقد اختبأت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من امتي» ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد دعا لقومه بالهداية إلى الاسلام فقال: «اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون» وقد استجاب الله دعاءه فآمنت العرب كلها عن بكرة ابيها في مدة قياسية، وقد اخبر النبي عن انحراف الحكام والولاة والامراء لكنه- بأبي وامي- يعلم ويفقه ترتيب المفاسد، لم يحرض على الخروج عليهم ومقاتلتهم وانما امرنا بالسمع والطاعة لهم وان تأمر عبد كأن رأسه زبيبة، وان رأينا اختلافا كثيرا، فقال: «اوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وان تأمر عليكم عبد فانه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا» فضلاً عن ذلك فلم يأمرنا بالدعاء عليهم انما امرنا باداء ما علينا وسؤال الله مالنا فقال: «تؤدون الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم»... وقد اجاب الله السائلين عنه بانه قريب مجيب يجيب دعوة الداعي، قال تعالى: «واذا سألك عبادي عني فاني قريب اجيب دعوة الداعي اذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون»، والله بالمرصاد لمن خالف سبيله لا سيما للظالمين، فهو يجيب دعوة المظلوم وان كان كافرا يرفعها فوق الظلام فقال- صلى الله عليه وسلم- :«اتقوا دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب» وهو سلاح مجرب وناجع ومأمون العواقب، فلماذا نتركه إلى الاسلحة الفاشلة من خروج بالقوة واثارة للفتنة.
4- اصلاح النفوس والعودة إلى الله: فالله «لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، ومن اصلح ما بينه وبين ربه اصلح الله ما بينه وبين كل شيء فينزل لهم المطر «وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غداق» وفتح عليهم بركات كل شيء «ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض»، بل يجعل لمن اصلح نفسه واتقى الله مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب : «ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه» وقصص الانبياء والصالحين تبين ان النصر والتمكين والخير والاستخلاف كان للانبياء واتباعهم، وهي ثمرة الطاعة وسعد الايمان «واورثكم ارضهم وديارهم وارضا لم تطأوها من قبل..» وان الظالمين مصيرهم الهلاك والزوال والعذاب «فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين».
5- التحاكم إلى الله: فحكم الله عدل ورحمة وامان، ولا يحصل الظلم والجور إلا بالتحاكم إلى غير شرع الله كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم- :«ما ترك قوم الحكم بما انزل الله إلا سلط الله عليهم جور السلطان» لان حكم الله حكم الخالق الصانع العليم الذي يعلم ما يصلح الانسان ويفسده «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير».
واعتقاد ان صلاح آخر هذه الامة لن يكون إلا بما صلح به اولها وهو الاسلام، فنحن قوم اعزنا الله بالاسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره اذلنا الله، ونحن قوم هدانا الله بالوحي فمهما ابتغينا الهداية بغيره اضلنا الله، وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحرص على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وقد أجمل علماء الاسلام شروط تولي الوظيفة بسبعة شروط لو طبقت لصلح حال الناس، وقد رفض الرسول- صلى الله عليه وسلم- توليه أبي ذر لانه ضعيف، ونهى عن سؤال الامارة لانه لأ يسأل الامارة إلا صاحب شهوة، وعلل ذلك في حديث عبدالرحمن بن سمرة فقال : «يا عبدالرحمن! لا تسأل الامارة فانك ان سألتها وكلت إليك وان اعطيتها من غير مسألة اعنت عليها» ولم يكتف- صلى الله عليه وسلم- هو وخلفاؤه بحسن الاختيار بل فتحوا الباب لشكاوى الناس وانصفوهم، وقد انتصف الفاروق عمر للمصري الذي ضربه ابن عمرو بن العاص- رضي الله عنه- وقال له: «اضرب ابن الاكرمين كما ضربك» فضلا عن ذلك كانوا يطبقون قانونا دقيقا مع الولاة وهو: من اين لك هذا؟ طبقه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مع احد الولاة الذين ولاهم على البحرين، فلما رجع قال: هذا لكم وهذا اهدي لي، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- :«هلا جلس احدكم في بيت ابيه أو بيت امه فقال: هذا اهدي إلي» وقال: «هدايا الامراء غلول» وان شاء الله يكون لنا مقالة قادمة حول وسائل ولي الأمر في إصلاح الفساد.
* رئيس قسم اللغة العربية بجامعة إب