د. محمد احمد الزهيري
احتل الأدب عند العرب قيمة كبيرة ومنزلة سامية حتى انهم كانوا لا يهنئون بعضهم بعضا إلا بثلاثة اشياء :«شاعر يبزغ، او مولود يولد ، او فرس تنتج»، وكانت كل قبيلة ظنينة بشعرائها وشعرهم لأنه لسان قومه المسجل لمآثرهم الملهب عواطفهم ومشاعرهم، المتصدي لأعدائهم الذائذ عن حرمهم، لذلك لا غرو ان تجد القبائل العربية رجالها ونساؤها كبارها وصغارها كتبا تسطر فيها نتاجات ادبائها ومسجلات تحفظ فيها إبداعاتهم، كما سجل ذلك الشاعر الجاهلي وهو يهجو قبيلة تغلب بسبب اهتمامهم بشعر شاعرهم عمرو بن كلثوم احد شعراء المعلقات السبع وهو لايدري انه بذلك يمدحهم وذلك في قوله:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يروونها مذ كان أولهم
ياللرجال لشعر غير مسئوم
الأدب له قيمة عند كل الأمم لكنه عند العرب سجل مآثرهم وديوان تاريخهم واوحد علوهم ووسيلة طربهم ومصدر سعادتهم، كما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه «الشعر ديوان العرب وعلم قوم لم يكن لهم علم غيره». يطرب له الصغير والكبير والمرأة والرجل والمسلم والكافر، يوضح ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال :«إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة»- البيت يرفع قبيلة كما رفع الحطيئة بني انف الناقة ببيت شعري هو:
قوم هم الأنف والأذناب دونهم وهل يساوى بأنف الناقة الذنب
وكانوا يستحون ان ينسبوا إلى هذا المصطلح وهذه التسمية، وإذا سألهم سائل يقولون من بني «انف الناقة» يرفعون بها السنتهم ويمطون بها اصواتهم، ورفع بها المحلق وتزوجت بناته العوانس لأنه فقير خامل الذكر، والبيت يضع قبيلة فكم من قبيلة كبيرة لها المفاخر والمآثر اخملها الشعر وابرز مثال على ذلك بنو نمير الذين كانوا جمرة من جمرات العرب الثلاث « بنو نمير، بنو ظبة، بنو كعب بن الحارث» فأخمل ذكرهم واطفأ جمرتهم بيت لجرير قال فيه:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعباً بلغت ولا كلابا
حتى انه وصل إلى ديارهم قبل ان يرجعوا من غزواتهم غير الموفقة، وهذا دليل آخر على اهتمام العرب بالأدب ومكانته عندهم فخرجت النساء يضربن وجوههم بالحصى ويقلن:« فضحتمونا فضحكم الله» وقد كان الأدب ابن بيئته وغراس مجتمعه وثمرة ثقافته، كان وما زال وسيظل انعكاس خلاق للواقع ولسان المجتمع، وفيا لقضاياه مبرزا لقيمته ومزاياه حتى قالوا:« الدعوات تظل محدودة الانتشار حتى يحملها الأدب» وقد وصف الأديب بأنه كان يقوم مقام وسائل الإعلام اليوم.
عرفت اهمية الأدب ودوره عند العرب فاستعملوه ووظفوه بالسلم والحرب والدفاع والهجوم والتبشير والدعوة، وقد وظف المشركون من العرب واليهود الأدب في معركتهم مع الإسلام ودعوته، وخاض أدباؤهم معركة لسانية إلى جانب المعركة العسكرية.
عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - اهميتها وخطورتها فدفع اصحابه إلى استعمال السلاح اللساني البياني إلى جانب السلاح السناني العسكري فقال - صلى الله عليه وسلم - :« ما الذي يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسيوفهم أن ينصروه بألسنتهم » فقام بهذا الدور شعراء الإسلام خير قيام حتى مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - شاعره الأول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - فقال له :«لشعرك فيهم اشد عليهم من وقع النبل»، وقال للآخر :«اهجهم وروح القدس معك» وقد ظل هذا الشعر يؤذي قريشاً في الجاهلية والإسلام، وكان حسان يهجوهم بالأنساب والمآثر الجاهلية، فكان اشد عليهم قبل ان يسلموا، وكان ابن رواحة يهجوهم بالفكر والشرك فلما اسلموا كان اشد عليهم، وكان خطيب القوم وشاعرهم معهم في كل محفل وهؤلاء بنو تميم اكبر قبائل العرب التي قيل فيها لولا الإسلام لأكلت تميم العرب قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يرأسه رئيسهم عيينة بن حصن ومعهم شاعرهم الزبرقان بن بدر وخطيبهم الأقرع بن حابس، وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر شاعره وخطيبه فاستدعى شاعره حسان بن ثابت وخطيبه ثابت بن قيس بن شماس، فلما انتهوا من منتقضاتهم الشعرية والنثرية قال عيينة: لشاعرهم اشعر من شعرنا، وخطيبهم اخطب من خطيبنا فاسلموا.اما اليهود الذين اساءوا في توظيف الشعر وخرجوا عن تقاليد العرب في المهاجاة حينما دخلوا في شعب لم يألفه العرب في المهاجاة وتحرج شعراء العرب المسلمين من ولوجه، إذ استعملوا شعرهم في التشبيب بالنساء العربيات المسلمات، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم التصفية الجسدية وسيلة لإسكاتهم والحد من سفاهتهم.البيت الشعري كما كان سببا في رفع قبيلة او حطها فقد صار سبب إسلام قبيلة وهدايتها فهذه مزينة وسيدها خزاعي بن عبد نهم الذين ابطأوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتأخروا في إسلامهم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه وقال له :اذكر خزاعيا ولا تهجه، فقال:
ألا أبلغ خزاعياً رسولاً بأن الذنب يغسله الوفاء
فقام خزاعي فقال: يا قوم! خصكم شاعر الرجل فانشدكم الله. فقالوا: اننا لا ننبوا عليك. واسلموا ووفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكان عددهم اربعمائة، واعلنت قبيلة دوس اسلامهم فرقا من قول كعب بن مالك :
قضينا من تهامة كل ريب
وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
تخيرها ولو نطقت لقالت
قواطعهن: دوساً أو ثقيفا
فقالت دوس: انطلقوا فخذوا لأنفسكم لا ينزل بكم من نزل بثقيف.
وقد وظفت الإسلامية وغير الإسلامية في صراعها ومعاركها مع الفرق الأخرى، وقد كان لكل فريق شعراؤه عبر العصور فللخوارج شعراؤهم وللشيعة شعراؤهم وللسنة شعراؤهم، كما كان الشعر حاضرا في كل قضايا الإمة ومعاركها، ولا مبالغة ان مكانة الشاعر ومنزلته ارتبطت بمعركة فاصلة كما ارتبط ابو تمام وبائيته بمعركة عمورية اشهر واكبر معركة مع الروم في العصر العباسي، وارتبط المتنبي وسيفياته بمعارك سيف الدولة وبطولاته في حرب الروم، وارتبط ابو فراس ورومياته بالمعارك والبطولات الحمدانية مع الروم، وارتبط العماد الأصفهاني بصلاح الدين وجهاده مع الصليبيين، فضلا عن ذلك فإن الأدب كان سبب خلود من خلد من النساء كليلى وسعاد وعبلة وبثينة وعزة وعفراء والخنساء، وقد ادركت النسوة اهمية الشعر في شهرتهن وخلود اسمائهن فكن يحرصن على التعرض للشعراء حتى يذكروهن في شعرهم، ولا يمكن ان القول ان الجمال هو سبب خلود هذه الأسماء فربما كان هنالك من هي اجمل بكثير من هؤلاء او بعضهن ولكن لم يعرفن، ويدلل على ذلك قول عبدالملك بن مروان لعزة: ماذا رأى فيك كُثَيّر؟ فقالت : رآني بعينيه لا بعينيك. وقد صدق من قال:
لولا القريض لكانت وهي فاتنة خرساء ليس لها بالقول تبيان
الأدب العربي في العصر الحديث يواصل القيام بدوره في الانتصار لقضايا الأمة والدفاع عن حقوقها، ويقوم بدور النذير العريان والحادي الأمين، فدوره في قضية فلسطين وقضايا النضال والتحرر وقضايا الظلم والتخلف لا يخفى على احد، وقد ذكر الأستاذ المحقق هلال ناجي في كتابه « شعراء اليمن المعاصرون» مؤكدا ذلك بأن اي قطر لم يقدم من أدبائه على مذابح الحرية مثلما قدم القطر اليمني، وقد كان الأدباء يرددون في ساحة القتل:
كم تغربت في سبيل بلادي
وتعرضت للمنون مرارا
وانا اليوم في سبيل بلادي
أبذل الروح راضياً مسرورا
وقد كان الأدباء على وعي كبير بأهمية الأدب ودوره في الإصلاح والتغيير، يقول ابو الأحرار محمد محمود الزبيري استطعت بالأدب ان اقوض الف عام من الفساد. وعبر عن ذلك شعراً فقال:
قوضت بالقلم الجبار مملكة
كانت بأقطابها مشدودة الطنب
وهذا يفسر المكانة التي احتلها الأدب في وجدان العرب منذ العصر الجاهلي إلى اليوم، ولم يكن الوضوح والمباشرة والتقريرية إلا نتاج الرسالية التي يحملها الأدب العربي لأن هذه الرسالة تقتضي مخاطبة الجماهير العربية الواسعة ذات الثقافة البسطية والذائقة الشفهية التي تعتمد الصوت في الحكم، هذه الذائقة نفسها هي التي تفسر نخبوية القصيدة الحديثة التي تحولت إلى ان تخاطب هذه النخبة نفسها، وان تعيشها في ابراج عاجية لا تمس ذائقة العرب السمعية لأنها متأثرة بالقصيدة الغربية المعتمدة على الذائقة البصرية حتى وصفها بعض النقاد بأنها لا تقرأ ولا تحفظ ولا تفهم، والذائقة الشفهية والقصيدة النثرية ستكون موضوع مقال قادم.