باتريك سيل
ستكون مهمة رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون الأولى إصلاح الضرر الذي خلفته حرب العراق في حين أن سلفه توني بلير الذي غادر منصبه في 27 حزيران (يونيو) سيكرس طاقته برمتها للشرق الأوسط ربما في محاولة لإصلاح الضرر الذي لحق بسمعته الشخصية المهزوزة أيما اهتزاز. وكلاهما أمام مهمة صعبة، فمشكلة غوردون براون تكمن في حجم الضرر الهائل الذي خلفته حرب العراق والذي سيتطلب إصلاحه سنوات بل ربما عقوداً. أما مشكلة توني بلير فمن شقين: أولهما سجله المؤيد للأميركيين والإسرائيليين الذي سيحول دون ثقة غالبية العرب فيه لاسيما المتشددين. وثانيهما أن مهمته كمبعوث للجنة الرباعية إلى الشرق الأوسط جد محدودة. فلا الولايات المتحدة ولا إسرائيل ولا حتى مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا يريدون له أن يلعب دوراً سياسياً لأن هذا قد يتجاوز مصالحهم وأنشطتهم الخاصة وهم لا يريدونه التدخل في التفاوض على تسوية نهائية للصراع العربي - الإسرائيلي. والولايات المتحدة تريد الإبقاء على سيطرتها على عملية السلام في حين لا تريد إسرائيل أي تدخل خارجي. وتكمن مهمة بلير المحصورة في مساعدة السلطة الفلسطينية على تطوير مؤسسات حكومية صادقة وفعالة بغية جعلها شريكاً مقبولاً لإسرائيل، ما يعني أنه سيعمل بشكل وثيق مع الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء سلام فياض في الضفة الغربية اللذين تتدفق عليهما الأموال والدعم السياسي الدولي من كل حدب وصوب.
ويبقى أن نرى إذا ما كان بلير سيمضي وقتاً طويلاً هذا إذا أمضى أي وقت أصلاً في مساعدة «حماس» في غزة التي ما انفك يصفها شأنه شأن الولايات المتحدة وإسرائيل ب «المنظمة الإرهابية». وهذا سيشكل الاختبار الحقيقي لتوني بلير فهو إذا قاطع «حماس» سيقضي على مهمته. وإذا على العكس اتصل ب «حماس» وحاول إقناع الاتحاد الأوروبي وغيره من المانحين بتوجيه الأموال والتشجيع السياسي إليها فإنه سيغضب واشنطن وحليفتها إسرائيل وسرعان ما سيصبح بلا عمل. علماً بأنه آت إلى العمل بجعبة مليئة بالسلبيات، فحرب العراق التي كان من أشد الداعين إليها شكلت كارثة معنوية واقتصادية وسياسية وإستراتيجية. كما تكبدت الولايات المتحدة كلفة باهظة لجهة العديد والأموال والسلطة في حين تكبدت بريطانيا كلفة أقل لكن لا بأس بها أيضاً. أما العراق فتم سحقه كدولة موحدة وهو الآن ضحية صراع داخلي فظيع وهو ما عاد قادراً على أداء دوره التقليدي كحارس الحدود الشرقية للعالم العربي، ورجحت كفة ميزان القوى الإقليمي لمصلحة إيران التي ظهرت كلاعب أساسي بطموحات إقليمية واسعة. كما ازداد احتمال الانتشار النووي بشكل كبير. وفي العراق سقط مئات الآلاف بين قتلى وجرحى وهرب مليون شخص أو هجروا من منازلهم. أما الضرر الذي لحق بالأملاك والبنية التحتية فهو أكبر من أن يقاس ويهدد إطلاق شياطين المذهبية بإشاعة الفوضى في البلدان المجاورة. وتزايد الشعور المعادي للغرب في حين اكتسبت «القاعدة» امتداداً جغرافياً خطيراً في المنطقة كلها. ويبدو الآن أن الصراع العربي - الإسرائيلي الذي عانى إهمالاً شديداً على يد إدارة بوش هو أبعد عن الحل السلمي من أي وقت في السنوات الأربعين الماضية. ولا يبدو أن بلير بدوره الجديد المحدود سيستطيع منح عملية السلام الدفعة الحاسمة التي هي بأمس الحاجة إليها. وساهم بلير في تقسيم الشرق الأوسط إلى معسكرين متناحرين بين الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل وبعض الدول العربية مثل الأردن ومصر من جهة، ومحور طهران ودمشق و «حزب الله» و «حماس» من جهة ثانية، علماً أن التناحر بين هذين المعسكرين يمزق المنطقة إلى أشلاء.
كما أن بلير بوقوفه إلى جانب الولايات المتحدة عرض بريطانيا لهجوم إرهابي وزاد من حدة الانقسامات داخل المجتمع البريطاني بين المسلمين وغير المسلمين، فقد زاد العداء للمهاجرين من باكستان بوجه خاص. والجدير بالذكر أن ما تقدم ليس لا من قريب ولا من بعيد لائحة شاملة بالضرر الذي ألحقه توني بلير وشريكه البارز جورج بوش الابن بالشرق الأوسط. فمأساة بلير وإن كانت مقصودة، تكمن في أنه كان غير قادر على الاستماع إلى ما تمليه عليه غرائزه أو الانغماس في ما يحب وأنه اضطر إلى حد كبير، بسبب اعتماد بريطانيا الاستراتيجي على الولايات المتحدة، إلى انتهاج سياسات عرف في قراره نفسه أنها غير حكيمة. وهو أقر بلسانه أن قرار الانضمام إلى حرب العراق كان قراراً صعباً لأنه تورط بفعله في سلسلة من التناقضات الفاضحة. وعندما تبوأ بلير رئاسة الوزراء في العام 1997 أعلن أنه سيتبع سياسة خارجية «أخلاقية» لكنه للأسف حنث بوعده. فسياسته كانت تنضح بالفضائح بل وأسوأ من ذلك بالأكاذيب. فهو كان يعرف أن الأدلة واهية حول امتلاك صدام حسين المزعوم لأسلحة دمار شامل لكنه مع ذلك هول التهديد العراقي لإقناع الجمهور البريطاني بالحرب غير أن الجمهور لم يقتنع، مظهراً بذلك حداً كبيراً من الحكمة. وكان بلير داعياً شغوفاً للتدخل «التحريري» أو «الإنساني» والمقصود بذلك ضرورة بل واجب الديمقراطيات الغربية للتدخل بالقوة العسكرية إذا اقتضى الأمر في البلدان التي توقع فيها الأنظمة التسلطية قسوة إجرامية وغير مقبولة بسكانها. ولا شك في أن المبدأ جدير بالثناء لكن الكارثة العراقية أفرغت مفهوم هكذا تدخل من مصداقيته. ولطالما كان بلير مؤيداً شغوفاً لأوروبا وتعهد بوضع بريطانيا في «قلب أوروبا» وكان يمضي عطله العائلية في أوروبا وتحمل مشقة تعلم لغة فرنسية مقبولة غير أن معركته حول الحرب مع جاك شيراك وغرهارد شرودر القائدين الفرنسي والألماني قسمت أوروبا في صميمها ووجهت ضربة قاصمة لمحاولات وضع سياسة أمنية ودفاعية أوروبية مشتركة. وأراد بلير أن يكون «الجسر» بين أوروبا والولايات المتحدة على طول الأطلسي لكنه بفعله انحاز إلى الولايات المتحدة وانهار الجسر. ولعل أكثر أبعاد سياسة بلير المؤيدة للأميركيين مأسوية كمن في عدم مكافأة بوش له على الإطلاق. فهو أصبح متحدثاً باسم بوش ودافع عن حرب العراق بطلاقة لا يمكن لبوش المعقود اللسان أبداً أن يضاهيها، وانضم إلى «الحرب العالمية على الإرهاب» الوخيمة العواقب لكنه بالكاد حصل على مقابل. وهو أمل وتوقع أن يقدر على التأثير على بوش في مواضيع كالصراع العربي - الإسرائيلي لكنه اكتشف جد متأخر أن إسرائيل وأصدقاءها الأميركيين داخل وخارج الإدارة الأميركية أكثر تأثيراً مما أمل أن يكون. وفي الواقع برز التناقض في موقف بلير على أشده في موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي. فهو كان شغوفاً بضرورة حل المسائل الفلسطينية الشائكة وأعلن ألف مرة أنه كان مؤيداً بالكامل لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة لكنه بشن الحرب على العراق ربط نفسه بالمحافظين الجدد في واشنطن الذين دعموا سيطرة إسرائيل على أراضي الضفة الغربية وعارضوا بالكامل أي تعبير عن الوطنية الفلسطينية. فهل بوسع بلير حل هذه التناقضات في عمله الجديد؟ لا بد أن نشك في ذلك. وعلى الرغم من تعبير بلير عن نفسه بمصطلحات أخلاقية رفيعة في غالب الأحيان وعلى الرغم من كونه مسيحياً ملتزماً يوشك على التحول إلى المذهب الكاثوليكي تحت تأثير زوجته شيري فإنه يبقى عملياً وفوق كل شيء مدركاً تماماً للوقائع التي تحكم علاقة بريطانيا بالولايات المتحدة. فبريطانيا مشاركة في جمع معلومات استخباراتية عالمية النطاق مع الولايات المتحدة وهي تشتري صواريخ «ترايدنت» البالستية من الولايات المتحدة لغواصاتها النووية وهي ملتزمة بطائرة حربية من جيل جديد متقدم هي مقاتلة «جوينت سترايك فايتر» (مقاتلة الضربة المشتركة) التي تستند إلى التكنولوجيا الأميركية. هذا ليس سوى غيض من فيض العلاقة الاستراتيجية الوثيقة التي تجمع بين بريطانيا والولايات المتحدة والتي تكبل السياسة الخارجية لأي رئيس وزراء بريطاني كما اكتشف توني بلير بالكلفة التي دفعها وكما سيضطر غوردون براون بدوره إلى الاعتراف بها.
كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط