بقلم/ صلاح ناصر البجر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن كل مسلم يدرك وجوب فريضة الحج وفضلها وأهميتها وانه مكلف بأدائها متى توفرت الشروط وانتفت الموانع،؛ فهو يعرف انها متممة اركان الإسلام الخمسة وخاتمتها، ويؤمن بذلك ويدركه متأهباً متهيئاً لأدائها والقيام بها استجابة لنداء الله تعالى : «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذروا اسم الله في أيام معلومات».
فالكل قد جمع الزاد وهيأ الراحلة لأداء هذه الفريضة العظيمة وادرك اهميتها لكنهم قد لا يدركون الاسرار والحكم والمعاني العظيمة من ورائها، أو قد يدركون بعضاً منها أو كلها ولكنهم لا يلقون لها بالاً فيفوت عليهم الخير الكثير من منافع الدنيا والآخرة في أفضل الأزمنة واشرف الأمكنة والتي لا تقام هذه الفريضة إلا فيها.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي-رحمه الله- في تفسير قوله تعالى : «ليشهدوا منافع لهم» اي لينالوا بيت الله منافع دينية من العبادات الفاضلة والتي لا تكون إلا فيه، ومن التكسب وحصول الأرباح الدنيوية، وكل هذا امر مشاهد قال تعالى : «ويذكروا اسم الله في ايام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام» وهذا من المنافع الدينية والدنيوية.
فاليك اخي الحاج، يا من يممت وجهك إلى البيت الحرام، وعقدت العزم على مفارقة الأهل والخلان، وتجشمت عناء السفر والبعد عن الأوطان؛ لأداء فريضة الحج.. أضع بين يديك بعض هذه الأسرار والحكم، حفاظاً على الوقت الذي لا يقدر بثمن، والجهد الذي لا يقاس بزمن؛ فالصلاة في المسجد الحرام بمائة الف صلاة وهنالك تسكب العبرات، ويتضرع إلى الله بالدعوات.
فأقول وبالله التوفيق ولعل الله ان ينفعني واياك انه سميع مجيب-أخي الكريم:
أولاً: الحج عبادة قلبية وبدنية ومالية، واعماله شاقة مضنية، ولذلك خفف الله على المسلمين فجعله واجباً في العمر مرة واحدة لما فيه من الجهد والمشقة؛ قال تعالى : «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» فجدد العزم وحرر القصد وصحح البداية لتسلم لك النهاية واخلص النية لله تعالى في جميع أعمالك وأقوالك؛ فإنما يتفاوت الناس في أعمالهم بالاخلاص قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم «ان اقواماً بالمدينة ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شركوكم في الأجر حبسهم العذر».. والاخلاص سر بين العبد وربه لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده فلا تقصد بحجك النزهة أو السياحة فقط لتقدم الوسائل المريحة من المركب والمسكن، ولا التجارة فقط، ولا الرياء والسمعة، وجدد النية واخلص لله في كل صعود وهبوط وقيام وقعود؛ لأن الاعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى فبالنية تتحول العادات إلى عادات والاعمال إلى طاعات.. واعلم انك في ايام الحج فاستغل دقائقه وثوانيه في طاعة الله؛ فانها ايام لا ترد ولا تعوض بمال وليكن هدفك وهمك هو تحقيق اعلى وارفع درجة في رحلتك إلى الله؛ ألا وهو الحج المبروك ففي حديث ابي هريرة-رضي الله عنه- ان رسول الله -صلى الله عليه وسلم سئل : اي الاعمال أفضل؟ فقال: «ايمان بالله ورسوله» قيل ثم ماذا؟ قال: «جهاد في سبيله» قيل ثم ماذا؟ قال «حج مبرور» متفق عليه.
واقتران الحج بالايمان والجهاد يدل على علو مكانته ورفعه منزلته؛ فليكن هو هدفك وغايتك من رحلتك وسفرتك هذه.
ثانياً انت تعلم انك في سعر وان المسافر في ذمة الله حتى يرجع وان دعاءه مستجاب واعماله مضاعفة فكيف بسفر الحج الذي هو من افضل الطاعات والقرب إلى الله تعالى؟.
دعيت فأجبت، ونوديت فلبيت النداء؛ فمعنى «لبيك اللهم لبيك» اي اجابة بعد اجابة وانت في وفادة الله وضيافته؛ فعن جابر -رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحجاج والعمار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم» رواه البزار بسند حسن.
فالحجاج في حفظ الله ورعايته، وهذا دليل محبة الله تعالى لعباده حيث يسر لهم سبل الهدى وأعانهم على ذلك تكرماً منه وفضلاً، وهو الغني عنهم على كل حال، وما شرعت تلكم المناسك إلا لإقامة ذكر الله.
ومن ثمار محبة الله تعالى حفظه لعباده الحجاج في حلهم وترحالهم فقد روى ابو هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجاً» رواه ابو نعيم في الحلية بسندة صحيح فيا من ودعت الأهل والأقارب مستعداً لذلك السفر؛ تذكر سفرك إلى الدار الآخرة وتذكر انك عما قريب ستودع هذه الدنيا فاستعد لسفر يوم القيامة واستغل تلك الأوقات واستفد من نفحات الله وألح عليه بالذكر والثناء والدعاء فرب دعوة كانت سبباً لسعادتك في الدنيا والآخرة.
ثالثاً: الحج مدرسة يعلم فيها الجاهل ويذكر فيها الناسي وينبه فيها الغافل؛ لكي يعبد الله على بصيرة ويؤدي حجه على أكمل وجه.. وعلى الحاج ان يسأل اهل العلم فيما اشكل عليه، وان يتعلم احكام الحج لأنها عبادة واجبة لله تعالى حيث يقول سبحانه «واتموا الحج والعمرة لله» ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم «خذوا عني مناسككم» وهي من العبادات التي لا يسع كل من اراد الحج أو العمرة أو كان قائماً على هذا العمل الجهل بها؛ وذلك لوجوبها عليه وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فلذلك ينبغي عليك اخي الحاج التعلم والتفقه والاستفسار والسؤال عن احكام هذه الفريضة واركانها وشروطها ومحظوراتها، وهذا ما نلاحظه في كل حاج ومعتمر من حرص واهتمام على تعلم احكام الحج؛ فيسأل ويستفسر ويقرأ شعوراً بأهمية هذه الفريضة وحتى يؤديها كما امر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك تقام مراكز التوعية والتوجيه والإرشاد لتعليم حجاج بيت الله الحرام وتوجيههم توجيهاً صحيحاً وقد حرصت وزارة الأوقاف والإرشاد ممثلة بوزيرها العلامة القاضي حمود بن عبدالحميد الهتار حفظ الله على تحديث وتطوير برامج الحج والعمرة من خلال البرامج والدورات التي تقيمها للمشرفين والحجاج؛ حرصاً من الجميع على أهمية هذه الفريضة وعظم مكانتها؛ لأنها من ابواب الجنة، ومحطة تحط فيه الخطايا والذنوب فقد روى ابو هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من حج ولم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه» متفق عليه.. والمعنى اي غفرت ذنوبه فلم يبق عليه شيء، فأي امر اعظم واشرف واجل من هذا ان يعود الإنسان وقد غفرت ذنوبه وبدلت سيئاته حسنات وخرج إلى هذه الحياة مرة ثانية بصحيفة بيضاء نقية؛ فهل ادركت السر في هذه الشعيرة والحكمة من تشريعها وحرصت على تحصيله وتحقيقه؟.
رابعاً الذكر والفكر: فالذكر علامة السبق والفوز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبق المفردون» قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» والذكر علامة على اليقظة من الغفلة وعلى ذكر الله للعبد؛ قال تعالى «فاذكروني اذكركم» وقد ورد في الحديث القدسي: «انا عند حسن ظن عبدي بي وانا معه اذا ذكرني فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» والذكر حياة القلوب والنفوس، وقد قال الحسن البصري -رحمه الله- الذكر للقلب كالماء للسمك؛ فكيف حال السمك اذا فارق الماء؟ والذكر بجميع أنواعه من تلاوة القرآن- وهو اعظمها على الإطلاق- ومن التسبيح والاستغفار والدعاء مطلوب من الإنسان على كل حال؛ فكيف بعبادة أصلها الذكر، وقوامها الاخبات واللجوء والدعاء والتضرع بين يدي الله عز وجل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «انما جعل الطواف والسعي ورمي الجمار لإقامة ذكر الله».
أخي الحاج: لقد جمع الله لك بين فضل العبادة وفضل الزمان والمكان؛ فاستغل تلك الأوقاف في تلك البقاع الطاهرة، وارفع اكف الضراعة، والهج بذكر الله تعالى على كل حال، وإياك والجدال والمراء والمزاح والغيبة والنميمة واعلم ان الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك فالوقت هو الحياة وهو رأس مال المسلم ولله در القائل: الوقت انفس ما عنيت بحفظة
وأراه أسهل ما عليك يضيع
فنسأل الله سبحانه وتعالى ان يوفقنا لطاعته اجمعين والحمد لله ربع العالمين.