عصام القيسي
تدفع الشعوب أثماناً باهظة من كرامتها وراحة بالها في مقابل تحقيق بعض الأحلام الطفولية التي تسكن رؤوس بعض المغامرين من أصحاب القرار فيها وما هو إلا أن تمر الأيام وتتبدل الأحوال وينجلي الغبار حتى يكتشف الناس أنهم قد قدموا أنفسهم قرابين لآلهة الوهم الرومانسية، وأن كثيراً من تلك الأفكار التي سلموا لها زمامهم لها وجاهة شعرية ولكنها لا ترقى لأن تكون واقعاً حياً يعاش! هكذا كانت الشيوعية والاشتراكية وهكذا كان «الرايخ الثالث» الألماني وهكذا سيكون مستقبل الصهيونية، والامبريالية الغربيتين!.
ان من حق الشعوب ان تحلم بوطن جميل له برلمان من الياسمين وشعب رقيق من الياسمين كما يقول نزار قباني وطن تجري من تحته النهار وتجري من أمامه الأشرار، لكن الشعوب الراشدة لا تتوقف عند هذا الحلم الرومانسي المشروع، ولا تسمح بأن يتحول الحلم إلى كابوس! وإنما تسعى إلى تحقيق أكبر قدر ممكن منه، لا عبر جبل واحد، وإنما عبر عدد من الأجيال، والشعوب الراشدة تستطيع التفريق بين الغاية المثالثة، والوسيلة الواقعية، ولا يفوتها ان الأحلام قد تصبح شراكاً فتاكاً اذا تركت في متناول يد الأطفال!.
تحظر يبالي هذه المعاني وانا استمع هذه الأيام بقلق لبعض الأصوات الخاطئة التي تنادي إلى إعادة تحقيق «الانفصال» في الجسد اليمني الموحد بضرائع اقل ما توصف به انها ساذجة! ولكن سذاجتها لا تمنع من التوقف أمامها بصدق ووضوح ومناقشتها نقاشاً موضوعياً هادئاً يبين زيفها لأصحابها قبل غيرهم والوضوح هنا شرط حاسم في المعالجة وهو محير من الوضوح الذي يفرضه السيف لو كان العرب يعلمون! وان من حق دعاة الانفصال ان نصغي إليهم وان نحاورهم وان نقدم لهم الأعذار من واحد إلى سبعين أقول هذا إيماناً مني بحق حرية التعبير بل وحتى حرية الكفر اذا شاؤوا وإدراكاً مني بأن منطق الوحدة غالب على منطق الفرقة مهما تذرع هذا الأخير بالحجج، والبراهين القاصرة بشرط أن يظل الأمر في دائرة الحوار والجدل..!.
ومن هذا المنطلق فقد رأيت التوقف عند بعض الذرائع التي يسوقها دعاة الانفصال في السر أو الجهر لتبرير مطلبهم محاوراً لا مناوراً لها حتى يتبين لهم ولمن غلبته شقوته ان الوحدة هي الحق بمنطق العقل ومنطق الواقع والضرورة قبل منطق الدين وتوقفت امام اربع ذرائع انفصالية سميتها أوهام الانفصال الأربعة! وهي:
1- وهم حق تقرير المصير: ولاشك أن من حق الإنسان «أي إنسان» ان يقرر مصيره في هذا العالم بالصورة التي يرضاها هذا ما يقوله منطق العقل ومنطق العدل غير ان لمنطق الحق والعدل تكملة لا بد منها تكشف عنها الحقيقة الآتية: اذا كان المنطق يؤيد حق الإنسان في تقرير مصيره فإن هذا المنطق نفسه لا يقف بهذا الحق عند سقف محدد، فاذا قلنا- مثلاً- ان من حق «أبناء الجنوب» ان يقرروا مصيرهم كما ينادي المنادي من مكان قريب فسنقول - بالتداعي المنطقي- ان من حق ابناء «جنوبية الجنوب» وأبناء «شمال الجنوب» وأبناء «شرق الجنوب» وأبناء كافة الاتجاهات الجغرافية والفلكية، ايضاً ان يطالبوا بحقهم في تقرير مصيرهم على نفس الطريق! بل سيكون من حق كل حارة وحي ان يعلن انفصاله اذا ما راودته الرغبة في تقرير مصيره فهل يعترضون على هذا المنطق؟!.
قد يقول الذي عنده علم من الكتاب انما نرغب في عودة كيان كان موجوداً ومكتملاً قبل العام 1990م وهذا أيضاً كلام بلا منطق لأن هذا الكيان الذي يطالب به لا يزيد عمره على المائة عام واذا لم يكن أقل من ذلك بكثير وفي المقابل فإن انصار الوحدة يطالبون بعودة كيان عمره آلاف لا تحصى من السنين هو اليمن الأولي القديم، فأي المنطقين اهدى سبيلا.. وأقوم قيلاً!.
2- وهم الاختلاف الثقافي: ومن منطقهم الذي لا منطق له قولهم بوجود اختلاف ثقافي بين أبناء الجنوب وأبناء الشمال، وعندما سألناهم عن مظاهر هذا الاختلاف حدثونا عن «المعوز» و«الفوطة» و«الثوب» و«الجنبية» والرقص المختلط، والرقص المذكر وحدثونا عن النظام والقانون الذي تركه الاستعمار في أبناء الجنوب والهمجية العشوائية التي تركتها الإمامة في أبناء الشمال وغيرها من الأوهام التي لا تحتاج لدحضها أكثر من نظرة في خارطة المجتمع اليمني من أقصى المهرة إلى أقصى صعدة فالتنوع الثقافي الذي لا يصل إلى حد الاختلاف هو احدى الخصائص الجمالية والإنسانية التي تميز بعض المجتمعات عن غيرها وهو عند العقلاء عامل بناء لا عامل هدم، ولو ان داعي الانفصال اكتفى بنظرة في خارطة ما يسمى بالجنوب وحده، لأعياه منطقه، فأين السمت الثقافي الواحد بين أبناء حضرموت مثلاً وابناء الضالع؟ أين روح التاجر من روح المحارب؟ وأين روح المتبدي الصحراوي من روح المتمدن العدني؟ وهذا نفسه يصدق على بقية أجزاء الوطن والفوطة في عدن هي الفوطة في تعز والثوب في صنعاء هو الثوب في حضرموت! وأما قصة النظام واللانظام فهي ان صدقت لا تعد ذريعة لأي دعوة فما بالنا بالدعوة إلى الانفصال! وهي في حقيقتها مسألة نسبية تتباين من منطقة إلى أخرى داخل دائرة الوطن الواحد، وللوقت منطقة في التغيير!.. ولو فتح باب الفخر والتباهي لجاء كل طرف بحصته الوافرة وهذه هي ثقافة داحس والغبراء والفرزدق وجرير التي نود ان نتركها جثة هامدة لنسور التاريخ والخلاصة ان هذا الوهم لا يختلف عن سابقه، من حيث انه لا يقف عند سقف ففي الجنوب ايضاً تنوع ثقافي بين مجتمعاته المتباعدة جغرافياً، فهل يود دعاة الانفصال ان تكون هذه ذريعة أخرى يقدمونها لدعاة المناطقية داخل الجنوب نفسه اذا واتتهم الفرصة للدعوة إلى الانفصال؟!.
3- وهم الثروة الكبيرة للقلة السكانية، بعد سقوط المثالية الاشتراكية وارتفاع حدة العولمة، وانتشار الحروب والفقر والخوف، والعالم اليوم روح الأنانية البراجماتية على حساب «القيمة» وبعد أن كان الإنسان يضحي بنفسه من أجل «القيم» صار يضحي بالقيم من أجل نفسه فمصلحته أولاً ومصلحته ثانياً ومصلحته أخيراً ومن تلك القيم التي صار البعض يرميها وراء ظهره قيمة «الوحدة»! وأنا هنا لن اتحدث عن الوحدة كقيمة لها اهميتها على حياة الإنسان اليمني في مستقبل أجياله الم يكن في حاضرها فهذا النوع من الخطاب لم يعد مجدياً مع اصحاب فلسفة «المنفعة» وانما سأخاطبهم بمنطق المنفعة نفسها فما المنفعة الموهومة في حديث دعاة الانفصال؟ سمعتا بعضهم يتحدث عن غزارة الاكتشافات النفطية والغازية والمائية في محافظات الجنوب، مع سعة في المساحة وقلة في السكان من معانيها ان يتحول الجنوب إلى دولة رفاه لا تقل عن دول الجوار الخليجي وانا هنا ليس بين يدي ارقام محددة عن حقيقة الموارد الطبيعية لمحافظات الجمهورية ولا أدري صحة هذه الحسبة من عدمها، ولكنني سأضطر لمجاراتها قليلاً، لحاكمتها منطقياً كخطوة أولى فقط! وأول ما يتبادر إلى الذهن سؤال يقول ما الذي يضمن لدعاة الانفصال - وأكثرهم من مناطق فقيرة الموارد- أن لا يتحول حلمهم إلى كابوس اذا ما قررت المحافظات الغنية بمواردها ان تطالب بحق تقرير المصير مدعومة برغبات خارجية لا قبل لهم بها؟ وما الذي يضمن لهم ألا تكون هذه الثروة المنتظرة هي الطمع الذي يؤدي إلى انفراط العقد مرة ثالثة ورابعة؟ الحقيقة أن هذا الوهم ينبني في ذهن أصحابه على وهم آخر هو ان حدوث التنمية متوقف على الموارد الطبيعية للدولة وأبسط رد على هذا الوهم هو هذه المعجزة اليابانية المتحققة اليوم، فاليابان تكاد تكون دولة بلا موارد طبيعية، لكنها اكتشفت الإنسان وجعلته موردها الأساس ولماذا تذهب بعيداً ولدينا مثالان قريبان عربياً هما الاردن ولبنان ماذا تمتلك هاتان الدولتان غير «البندورة» والسياحة، وقليلاً من المعادن التي لا تقدم كثيراً «بالنسبة للأردن» ومع ذلك فإن مستوى دخل الفرد فيهما أفضل بكثير من بعض المجتمعات ولربما يكون انعدام الموارد الطبيعية في قطر من الأقطار عاملاً ايجابياً يدفع باتجاه اكتشاف الإنسان، سيد التنمية ومركزها! وفوق هذا فإن الثروة ليست ضماناً للاستقرار، ولا حتى ضماناً للرفاه بل قد تكون عاملاً من عوامل القلق والصراع الدائم.
4- وهم الاضطهاد المناطقي، وقبل الحديث عن هذا الوهم لابد من الاقرار بحقيقة لا تقبل الجدل هي ان الوطن حق للجميع بثرواته ووظائفه ومناصبه مثلما كان حقاً للجميع بجغرافيته وتاريخه وثقافته وحقيقة أخرى هي أن بعض المتنفذين من ارباب الفساد قد أساء فعلاً إلى اليمن وأهله بما اقترفته يداه من اخذ للحقوق واساءة للإنسان في هذا المكان أو ذاك من ارض الوطن، ومن حق المتضرر ان يرفع صوته مطالباً بحقه دون خجل ودون مبالغة ايضاً وعلى الرغم من حساسية موضوع الاضطهاد هذا إلا ان مناقشته لابد منها لأنه واحدة من المبالغات التي لا أساس لها، وكان بودي لو دللت على ذلك بالأرقام والمعلومات لكني سأكتفي بذكر بعض الملاحظات فقط، وأول تلك الملاحظات هي أن شكوى الاضطهاد هذه نسمعها قديماً من بعض أبناء المناطق الوسطى ثم دارت الأيام واخذ ابناء المناطق الوسطى حظوظهم كاملة من الوظائف والمناصب والأعمال، واذا بنا اليوم نسمع ذات الشكوى من ابناء «الجيل» وقد سمعنا احد مشائخ حاشد قبل فترة يعلن عن وجود تحيز ضد قبيلته بدليل عدم -أو قلة- وجود وزراء من أبناء حاشد! والحقيقة ان هذا الباب لو فتح فلن تبقى قبيلة أو جهة إلا قالت نفس القول ويكفي هذا القول فساداً انه يؤسس لشريعة القبيلة على حساب شريعة الدولة المدنية وليس من مصلحة احد في الدولة بما فيهم الأخ الرئىس ان يجعل نفسه محل اتهام من هذا النوع ولا أعتقد أن الدعاوى المناطقية والطائفية كرامة تستحق التقدير!.
هل نقول اننا نعيش زمن الأحلام الصغيرة زمن «الميكرو احلام» وان زمن الأحلام الكبيرة قد ولى؟ هل نستبدل اليمن الكبير بقبائل متناحرة؟ هل يعي طلاب الانفصال أنهم يؤسسون لتاريخ جديد من الصراع؟ وانهم يسودون صفحاتهم بالعار امام اجيال المستقبل؟ لاشك أنه منطق ضعيف ونظر اضعف، ومن حق الوحدة ان تدافع عن نفسها وان تحمي أحلامها اذا أحست بالخطر!.
وستأتي اللحظة التي يكتشف فيها هؤلاء أنهم قد ارتكبوا حماقة في حق أجيال بعدهم واذا كانت الاجيال الحاضرة قد عجزت عن تحقيق كثير من أحلامها المرتبطة بالوحدة فلا يجوز ان تيأس من تحقيقها على يد اجيال يمنية موحدة ولا يجوز ان يكون ارتفاع الضغط وامراض السكر عند بعض الحمقى سبباً في ارتكاب حماقة ضد الوطن الباقي قبلهم والباقي بعدهم.