كانت زيارة الرئيس الأمريكي زيارة قد انتظرها الكثيرون ممن ما زالوا يعلقون آمالاً على نظرة شفقة، من قِبَل القوة العظمى في هذا العالم، في سبيل إيجاد حلول لقضاياهم ومشاكلهم، في هذه المنطقة الأكثر توترًا واشتعالاً في قارات العالم الست، وبالرغم مما قيل إنها "تاريخية" و"مصيرية"، فقد تولّد شبه إجماع لدى العديد من المراقبين، الأمريكيين قبل العرب، أن الجولة البوشية لم تحقق الكثير من أمنيات كانت ترقب حصولها، لا سيما على صعيد الوضع الفلسطيني، سواء كان منه الملف الميداني واشتعال المواجهة بين المقاومة والجيش الإسرائيلي من جهة، أم من جهة أخرى الملف العالق والمتأزم الخاص بالمفاوضات الجارية بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية.
التحليل التالي يحاول تقديم كشف حساب لأبرز ما تحقق خلال هذه الزيارة، ولا سيما أننا في هذا المكان وقبيل الزيارة حاولنا إلقاء الضوء على أبرز بنود الأجندة التي وضعها البيت الأبيض في زيارته للمنطقة. .
* عدنان أبو عامر
غزة. . نزيف متواصل
بعكس التوقعات التي سربتها مصادر مختلفة، فقد واصلت آلة الحرب الإسرائيلية -في ظل زيارة بوش- نهجها الدموي في الأراضي المحتلة، لا سيما في قطاع غزة الذي أصر بوش خلال لقاءاته الفلسطينية والإسرائيلية على وجوب عودته إلى "بيت الطاعة" من خلال القضاء على حكم حماس هناك، الأمر الذي وجد ترجمته المباشرة، وبدون مواربة، في تصعيد عسكري إسرائيلي غير مسبوق منذ أن سيطرت حماس على القطاع في حزيران 2007، وكأن تل أبيب تعلم سلفًا أن السجاد الأحمر الذي داس عليه بوش في مطار بن جوريون سيكون لونه أكثر زهوًا لو كان مطليًّا بدماء الفلسطينيين القانية!.
وهكذا رافقت جولة بوش في تل أبيب ورام الله على حد سواء قيام سلاح الجو الإسرائيلي الموصوف ب"ذي الذراع الطويلة" بتوسيع رقعة أهدافه، بما في ذلك الأطفال والنساء والشيوخ، وقصف الأفراح الذي يتزامن مع العادة الأمريكية المحببة في التنغيص على العراقيين والأفغان حتى في أفراحهم، وتحويلها إلى أتراح محزنة!.
ولم يكن سرًّا إفشاء بعض التسريبات التي رافقت لقاءات بوش مع صناع القرار في الدولة العبرية، ولا سيما أولمرت وباراك وليفني، وتركزها أساسا في ضرورة منح الولايات المتحدة لغطاء "مفتوح" لأي عملية عسكرية سينفذها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، الذي حاول الإسرائيليون "بنجاح" دغدغة عواطف بوش بوصفه "معقلا للقاعدة"، مما يجعل من التصعيد العسكري المتواصل مساندا للعمليات العسكرية الأمريكية في بغداد وكابول على حد سواء!
أكثر من ذلك، فما إن غادر بوش الأراضي الفلسطينية المحتلة حتى شرعت مختلف أسلحة الجيش الإسرائيلي، برا وبحرا وجوا، بدكّ قطاع غزة، مما أسفر عن سقوط ما يقرب من خمسين شهيدًا وإصابة المئات، وما زالت جعبة الإسرائيليين ملأى بالكثير الكثير من العمليات التي ستملأ شوارع غزة والضفة دماء وعرقًا ودموعًا!
أكثر من ذلك، فقد لازم الإدارة الأمريكية الصمت المطبق وهي ترى إسرائيل، ربيبتها في المنطقة، تمارس على الفلسطينيين أبشع أنواع العقوبات الجماعية، ولا سيما إغلاق جميع المعابر المؤدية من وإلى قطاع غزة، وقطع الكهرباء وإمدادات الوقود، مما جعل الفلسطينيين على شفا موت محقق، في حين أن هذا الوضع استدعى من مختلف القوى الدولية الحليفة لواشنطن إلى الطلب من تل أبيب رفع تلك القيود والعقوبات.
القبضة الحديدية ضد حماس
التصعيد العسكري الأخير الذي تلا زيارة بوش، فُهم لدى حكام تل أبيب فضلا عن أنه ضوء أخضر من سيد البيت الأبيض، إلا أنه كان يعني -وفي ذات المقام- فيتو حاسم حازم برفض إجراء أي حوار أو تفاوض مع أعداء إسرائيل التي تخوض معهم صراعًا داميًا، أدماها كما أدماهم، بحيث إن دعوات جادة خرجت من قبل بعض الأطراف الإسرائيلية تدعو أولمرت وباراك لإجراء حوار ما، ولو كان من خلال طرف ثالث، مع حركة حماس صاحبة القول الفصل في مسيرة المواجهة الحاصلة اليوم بين غزة وتل أبيب.
علما بأن الأمنيات الكامنة خلف بعض الرغبات الإسرائيلية بإجراء حوار مع حماس تتعلق بكبح جماح الأخيرة المتعلق بتطوير قدراتها العسكرية الآخذة في التعاظم، فضلا عن الجندي الأسير بحوزة حماس، علما بأن الجنرال "شلومو غازيت" رئيس الاستخبارات العسكرية الأسبق برر إجراء هذا الحوار قائلا: بالنسبة لتحرير جلعاد شليت، مسموح الحديث حتى مع الشيطان، بل ومقترحا تعديلا على هذه الصيغة: "مسموح الحديث مع الشيطان حتى لو سمح الأمر لأطفال سديروت بالعودة إلى النوم بهدوء وأمان في أسرتهم"!
في المقابل، وبالرغم من هذه التبريرات والمسوغات الإسرائيلية، يأتي الرفض الأمريكي لإجراء أي حوار أيا كان مضمونه بين إسرائيل وحماس لاعتبارات عديدة تراها الإدارة الأمريكية وجيهة ومنطقية ومعقولة، ومنها:
- أي تفاوض بين حماس وإسرائيل، سيضر حتما بحليف بوش في هذه المرحلة، وهو رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، من خلال إضعاف موقفه أمام الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء. .
- هذا الحوار الإسرائيلي الحمساوي فيما لو أخذ أشكالا متعددة، سيجعل من الحوار الفتحاوي الحمساوي أمرا قابلا للاستئناف بصورة تلقائية، الأمر الذي تخشى من خلاله واشنطن إعادة بث الحياة في جسد حكومة الوحدة الوطنية، التي بذلت جهودًا أمنية وسياسية واقتصادية لوأدها في مهدها بمكة المكرمة. .
- هذا الحوار ترى واشنطن أنه خضوع وانصياع لابتزاز تمارسه الحركات المقاومة، بدءا بكابول مرورا ببغداد وبيروت وانتهاء بغزة، وهي بهذه النظرة تساوي بين مختلف الجهات التي ترفع السلاح في وجهها، الأمر الذي وجدنا تفسيراته المختلفة في رفض التجاوب مع أي مطالب وعروض "مرنة" تبديها حركات المقاومة في تلك البلدان، انطلاقًا من عقيدة المحافظين الجدد التي ترى أن ما لا يأتي بالقوة، يأتي بمزيد من القوة!
- قبل هذا وذاك، فإن أي حوار يوافق عليه أولمرت مع حماس، حتى لو كان بدافع ما تسميه إسرائيل "حماية مصالحها القومية" سيعتبر أمريكيا بمثابة صفعة للرئيس بوش، الذي أيد خلال زيارته موقفه الحازم في مكافحة حماس.
مفاوضات من أجل المفاوضات!
لن يحتاج المرء العادي، فضلا عن المراقب والمتابع، لكثير عناء وهو يعقد مقارنة واضحة بين معالم زيارة بوش إلى كل من تل أبيب ورام الله، وبالتالي ما حملته هذه المعالم والرموز من دلالات سياسية غاية في الدقة، كان منها حرصه على زيارة نصب المحرقة الإسرائيلية "ياد فاشيم"، والرقص على أنغام النشيد القومي اليهودي، والحديث عن يهودية دولة إسرائيل، وعقد لقاءات مع مختلف مستويات قادة الدولة، الرسميين والمعارضين على حد سواء، إضافة لممثلي شرائح المجتمع المختلفة، ولم يغفل عن تناول العشاء في منزل أولمرت، في لفتة واضحة إلى رابط من "الحميمية" بين الرجلين اللذين يشتركان في إخفاقات عسكرية ليست مشرفة في بيروت وبغداد. .
أما زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة، فكانت الصورة مختلفة والزيارة مختزلة لأبعد الحدود، تحمل تناقضات كبيرة بين الدبلوماسية وبين الواقع ولاسيما ما تعلق بمسألة الدولة الفلسطينية، فقد وصل رام الله التي كانت عاشت شبه حظر تجوال كامل، بسبب الإجراءات الأمنية المشددة، ولدى خروجه من سيارته لم يكن ثمة نشيد وطني يُعزف، بل مر بالكاد أمام حرس شرف فلسطيني محدود وفي وقت قياسي نحو مدخل المقر، وفي داخل مقر الرئاسة، اقتصرت المحادثات على لقاءات رسمية، ولم يكن وجود لأي لقاء مع مؤيدين ولا حتى معارضين، مع التأكيد على أن برنامجه لم يتضمن أي لقاء مع أي داعية ديمقراطية أو ناشط حقوق إنسان فلسطيني، ساعات محدودة وانتهت اللقاءات.
هذا على الصعيد الشكلي الذي حمل دلالات هامة، أما على الصعيد السياسي، فلم يكن بوسع بوش "المسكون" بعقدة اللوبي الصهيوني، وأقدامه تطأ فلسطين المحتلة إلا وأن يعلن "اعترافه وتأييده ومساندته" للدولة اليهودية، قاطعا الطريق على كل جولات التفاوض التي تدور حاليا بين المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومعلنا النتيجة النهائية للتفاوض الذي يدور حول القضايا المسماة إسرائيليا "اللباب"، وهي القدس وعودة اللاجئين والدولة والمستوطنات، مما كان له تأثيرات مباشرة على تعاظم العقبات الكأداء التي وضعت في طريق المفاوض الفلسطيني، وبالتالي منح نظيره الإسرائيلي نوعا من الأريحية التفاوضية متمثلا في الإبطاء وعدم التسريع بحسم القضايا العالقة بناء على توصية أصدرها أولمرت لرئيسة فريقه التفاوضي "ليفني".
في سياق متصل، وبرغم ما قيل عن رغبة "صادقة" لدى الرئيس الأمريكي بإقامة دولة فلسطينية خلال العام الحالي، فإن الاشتراط الأمريكي الحاسم بضرورة تطبيق الفلسطينيي ن للبنود الأمنية المتعلقة بهم في خارطة الطريق، وزيادة إسرائيل بشرط إضافي يتعلق ببسط نفوذ السلطة الفلسطينية لسيطرتها في غزة، يجعل مما يحصل في غرف التفاوض المغلقة أمرًا أقرب إلى "العصف الفكري" منه إلى التفاوض الجدي الذي يتحدث عنه بعض المفاوضين الفلسطينيين، وكأنه اشتباك حقيقي!
أضف إلى ذلك، فإن مقربين من صناع القرار في المقاطعة برام الله ممن تواجدوا على طاولة لقاءات بوش عباس أكدوا أنهم خرجوا "مرتاحين" وليسوا "مسرورين"، وثمة فرق بين الراحة والسرور، وخلاصة ما يعتقدونه أن الزيارة إنما تؤهل وتعد "للتوصل إلى "اتفاق رفّ" مكتوب على قيام دولة فلسطينية، لكنه غير مُلزم بالتطبيق، حتى استكمال الشروط التي تتحكم فيها إسرائيل، بمعنى أكثر وضوحا فإن بوش وعلى حد وصف دقيق أراد خلال زيارته للفلسطينيين تقديم حل سريع على طريقة الوجبة الأمريكية السريعة، وكما قال حرفيا: انسوا التاريخ والشرعية الدولية والحقوق، وتعالوا نصنع شيئا جديدا!
ولعل هذا ما دفع بأبرز المفاوضين الإسرائيليين خلال اتفاق أوسلو "رون بونداك" مدير مركز بيرس للسلام، للقول إن الرئيس بوش حاول إيصال رسالة سياسية لمضيفيه في رام الله وتل أبيب، محمود عباس وإيهود أولمرت، مفادها: إذا كنتما جديين في العملية الجارية، فأنا هنا كي أساعدكما، وإن لم تكونا، فخسارة أن أضيع وقتي! طبعا فهمت هذه الرسالة إسرائيليا على أنها موجهة للمضيف الثاني.
ومع ذلك، يبقى بوش أمام أولمرت بأظافر مقلمة، حتى لو أبدى نوعا من الامتعاض والتذمر لإبطائه الخطى في مسيرة أنابوليس، فالرئيس راحل راحل، سواء في زيارته للمنطقة أم من بيته البيضاوي، الأمر الذي لا يمنحه أيا من عوامل القوة والضغط على أولمرت، هذا السياسي الذي وصفه محلل إسرائيلي ب"البطة العرجاء"، ويعيش أياما هي الأكثر حرجا في حياته السياسية وهو يستعد لمواجهة سيف فينوغراد الحادّ!. <
* كاتب وصحفي فلسطيني