كتابات/ عبد القادر سلام الدبعي
إن القانون ليس هو المبدأ الاسمى الذي يحكم العالم، إنه ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق غاية، تتمثل وتتجلى في الحفاظ على المجتمع البشري.
فإذا لم يستطع المجتمع أن يحافظ على وجوده في ظل القانون، وعجز القانون عن أداء غايته، فإن القوة كفيلة بتصحيح الوضع المختل وفقاً لمقولة: "يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
إن الحياة فوق القانون والرحمة أولى بالأخذ والعمل بها، وعندما يصبح المجتمع في موقف الخيار بين احترام القانون والحفاظ على الوجود فلا محل للتردد وعلى القوة أن تضحي بالقانون لتنقذ الأمة والمصلحة العليا للشعب والبلاد.ويقول ابن الهيثم: "إن كل مذهبين مختلفين إما أن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً، وإما أن يكونا جميعاً كاذبين وإما أن يكونا جميعاً يؤديان إلى معنى واحد وهو الحقيقة فإذا تحقق في البحث وأمعن في النظر ظهر الاتفاق وانتهى الخلاف .وأية نظرية اجتماعية تدخل لتطوير الواقع أسهل اختيار لصحتها وفائدتها عندما تتصدى لبيان منظمات التطور، ويبقى عليها أن تجتاز بعد ذلك اجتيازين أكثر صعوبة وأكثر أهمية. أولهما تعيين الغايات التي يجب أن يتجه الجهد الإنساني إلى تحقيقها في الواقع الاجتماعي حتى يتطور.
والثاني أصعبها وأكثرها أهمية، أن تحدد الأسلوب الذي يستطيع الناس أن يصلوا به من المنطلقات إلى الغايات.
كل هذا طبقاً لمنطق ومنهج واحد. هذا الانتقال المتدرج من السهل والمهم إلى الصعب الأهم إلى الأصعب الأكثر أهمية هو الطريق الذي على النظرية- أية نظرية- أن تشقه من التجريد الفكري إلى أن تلتقي بالواقع العيني لتثبت في الممارسة قيمتها على محك ما ينفع الناس.
قيمتها وفائدتها كضابط فكري للجهد الإنساني المتمثل في العمل الذي يطور الواقع الاجتماعي فعلاً.
إن هذا جدير بانتباه خاص، فالنظريات مقولات فكرية ذات قيمة وفائدة ثقافية، غير أن هذه القيمة والفائدة الثقافية لا تعني بالضرورة صلاحية كل المقولات الفكرية لتكون ضوابط العمل الذي يطور الواقع الاجتماعي إنما تتوقف هذه الصلاحية على أداء وظيفة اجتماعية تتجاوز مجرد المعرفة هي أن تكون صالحة للالتقاء عليها بين متعددين وللالتزام بها في الممارسة ثم وهذا المهم الاحتكام إليها عند الاختلاف في الممارسة بين الذين التقوا عليها والتزموا بها، وليس كل مقولة فكرية، ولو كانت صحيحة، قادرة على أن تؤدي هذه الوظيفة.
وبيان هذا أنه بعد أن تحدد النظرية- أية نظرية- منطلقات الجهد الإنساني وغاياته وأسلوبه ثم يلتزم الناس ضابطاً للممارسة وحكماً فيما بينهم يبدأ العمل الذي هو الأداء الأخير لتطوير الواقع.
وفي ساحات العمل وعلى مدى الزمن تتحول النظرية إلى مجموعة بالغة التعدد والتنوع من المنجزات الجزئية والمرحلية التي توزعها قسمة العمل على عديد من الأفراد يعمل كل منهم في موقعه حسب قدرته، ويكون نجاح كل أولئك الذين يسهمون في تحقيق الغايات المعنية في النظرية التي التزموها متوقفاً على ألاَّ تنحرف بهم الممارسة الجزئية والمرحلية في مواقع متفرقة عن تلك الغايات، كما يكون تكامل الجهود التي يبذلها متعددون في مواقع متفرقة متوقفاً على ثقة كل عامل في موقعه بأنه ليس وحده على الطريق إلى تلك الغايات ذاتها.
وأخيراً يكون بقاء كل تلك الجهود المتنوعة المتفرقة المتكاملة على الطريق إلى أن تحقق غاياتها متوقفاً على المقدرة على الاحتكام إلى النظرية عند الاختلاف في الممارسة..باختصار إن نجاح كل الملتزمين بنظرية واحدة في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها في أن يحققوا غاياتهم، يكون متوقفاً على وحدتهم الفكرية.
وهذه هي على وجه التحديد وظيفة النظرية في خدمة قوى تطوير الواقع الاجتماعي في أي مجتمع.
وعندما تفشل أية مقولة فكرية في أداء هذه الوظيفة تفقد قيمتها وفائدتها كضابط للعمل الذي يطور الواقع الاجتماعي حتى لو بقيت لها قيمة ثقافية. وهذا يعني أن على النظرية أن تعين للجهد الإنساني غايات على قدر من الوضوح والواقعية تصلح به أن تكون محلاً للالتقاء عليها بين متعددين والالتزام بها في الممارسة والاحتكام إليها عند الاختلاف.