قصة / ماجد علي عبده الداعري
هو أديب حقاً وبكل ما تعنيه الكلمة من معنى... فهو في ميدان الشعر فارس لا يضاهيه في كتابة القصة قاص وأديب لا يقارن... وفي الكتابة الأدبية مبدع لا يشق له غبار، لكن وضعه المعيشي وحالته الاقتصادية والمادية لا يسر عدواً ولا صديقاً ، بسرعة يخلع ثوب الإبداع ويرتدي قميص الزاهدين عن الأدب وأرباب الكتابة "هذه الملعونة" التي لم تشبع أطفاله عيشاً ولم تسد رمق زوجته السمراء النحيلة قوتاً وخضاراً ولم تشفع له من تلك الإهانات اليومية التي يوجهها له "صاحب البقالة المجاورة لبيته" عند كل صباح ومساء يراه فيه خارجاً أو عائداً إلى منزله المهدد بالطرد منه والخروج القهري بلا عودة إن لم يسدد ديون الإيجار السابقة واللاحقة لمؤجره المتعاطف معه ومع أطفاله الصغار الذين يقابلونه عند الباب كلما هم بإخراجهم منه ، ولذلك .. فقد قرر أن يتخلى عن هذه المهنة "الهوجاء" التي لم تأكله عيشاً ، كما يصفها حزيناً منكسراً واللجوء إلى أعمال أخرى ومهن لم يرده عنها "صهيل القوافي التي تتزاحم بين أفكاره " وذلك الإحساس والتغلغل الشعري الراقي الدائر في أجواء كلماته ودنيا أفكاره السامية بروح الإبداع والفن والأدب ، ولذلك فقد شمر ساعده وانطلق صوب العمل ينشد الحرية المعيشية والتحرر من قيود القوافي ونيران المعاني الأدبية والشعرية التي لا تغني ولا تسمن من جوع ، ولا تقوى على حمايته من إهانات "المؤجر" وصراخ أطفاله وزوجته المستمر في وجهه طلباً منه تسديد ديون البقالة حتى يتمكنوا من أخذ الروتي وبعض طلبات المنزل بلا ترجي وإهانات كما يحصل لهم كل يوم معه. ومن هنا أتخذ طرقاً كثيرة للعمل وكسب لقمة العيش فعمل "معلماً إضافيا"ً مقابل مبلغ زهيد لم يكفه وأطفاله شر الأذية ثم تحول إلى "مساعد خطاط" في إحدى الأكشاك المتواضعة الخاصة بالدعاية والإعلان مقابل أجر يومي لم يكفه مصاريف يومه وثمن الحبة القات التي يظل يلوك أعوادها ليلاً ونهاراً بحثاً عن حل لنفسه وهمومه المتراكمة وهروباً من واقعه المرير الذي يحتل الحيز الكبير من تفكيره نهاراً وليلاً ، ولم يلبث إلا وتحول سريعاً إلى صحفي ومحرر في إحدى الصحف التي ظن أن الرزق سينهال عليه كما ينهال على أصحابها الذين قابلوه بترحاب وحفاؤه مبالغ فيها دفعته إلى بذل كل قدراته الفكرية وتسخير كل خبراته العلمية والثقافية وإحراق كل الطاقات الإبداعية المكنوزة في عقله طوال سنوات إبداعه الطويلة من أجل الارتقاء بالعمل الصحفي وتقديم الأفضل بين مختلف المحررين والصحفيين الذين يتجرعون الويل والمرارة من قبله بسنوات عجاف عاشوها قبل انضمامه إليهم ؛ أيام مرت وأسابيع انقضت وهو يكافح معهم ويستدين من هنا وهناك على أمل الفرج القادم ولأنه متأني دائماً ولا يحب العجلة والتسرع فقد ظل يعمل بصمت مطبق ومن غير سؤال أو تفوه بطلب واحد لمديره "كبير الصحفيين وخبراء الصحافة الأوائل" الذي لا يراه إلا بعد أيام وأسابيع من عمله النضالي في "بلاط صاحبة الجلالة" المهدرة الكرامة والمهانة الشرف في بلاده وصحيفته التي يعمل فيها.
وودع الأيام.. والأسابيع والشهور وهو لم يزل ينتظر لحظة الجزاء والتكريم المادي المنتظر ولكن دون جدوى فهو لم يكن يدرك أن كبار الصحفيين من قبله في تلك الصحيفة لا يعرفون شيئاً اسمه المال أو الجزاء المادي أو الراتب وإنما يعتمدون على حسنات المغلوبين على أمرهم وصدقات رجال المال والأعمال والمسؤولين على أمور الغير ومقابل لفتة صحفية كريمة من قبل أولئك الصحفيين المغلوبين على أمرهم ، ولذلك فقد فاق صبره الاحتمال بعد أن تراكمت ديونه المتراكمة عليه من قبل وطال انتظاره للفرج .. فصرح بسره إلى المدير خائفاً وحرجاً ومحتالاً في أمره ، وليرد عليه مديره بكل برود واستغراب من طلبه الغريب الذي لم يسبق إليه أحد من الصحفيين العاملين لديه ، بعدم اعتماد صحيفته نظام الرواتب أو الأجر المادي للصحفيين أبداً وإنما كل يدبر نفسه ونحن مستعدين للنشر كأي خدمة يمكن أن نقدمها لكم إضافة إلى الشهرة الكبيرة التي ستحصلون عليها وانتهت الجلسة .. وشوف شفلك عندي عمل.
هنا قالها مديره المحترم ورئيس تحرير أكبر الصحف انتشاراً واحتراماًٍ لدى القراء التي تتاجر تلك الصحيفة بهمومهم ومعاناتهم كل يوم على صدر صفحاتها المختلفة باسم الصحافة وميثاق شرفها المهدر.
ومن هنا فقد ولي وجهي بعيداً عن دنيا الصحافة وهمومها المتعبة وذهب بعيداً عن عالمها وإلى غير رجعة ، ولعل قرار الانتحار على صدر صفحات إبداعه وميدان القصائد التي كتبتها ذات يوم هو الحل الأخير الذي انتهى إليه عن قناعة مطلقة.