كتب/ جلال عارف
لا ينبغي لكل محاولات التعتيم والالتفاف أن تصرف أنظارنا عن هذا التصريح الخطير الذي يكشف بصورة لا تدع مجالاً للشك ما تريده الولايات المتحدة في لبنان وفي المنطقة. فعندما يكون لبنان على شفا الهاوية والمشاعر ملتهبة ومحاولات تكريس الانقسام على أشدها، والمؤامرات لتحويل السجال السياسي إلى اضطرابات أمنية تتصاعد وتيرتها.
وعندما تكون نقطة اللقاء الوحيدة هي المبادرة العربية التي فتحت باباً للحل، والتي توافقت الأطراف على قبولها مبدئيا لتستمر الجهود لتذليل باقي العقبات. وعندما تصل الأمور إلى نقطة فاصلة بعد اغتيال عماد مغنية من ناحية وبدء الحديث عن الطلاق السياسي أو الانتقال من الوطن الموحد (رغم كل أمراضه ومشاكله) إلى ممالك الطوائف.
عندما يكون الوضع في هذه الخطورة، ويكون الجهد العربي هو القادر وحده على تحقيق الاختراق ومنع الكارثة ثم تأتي الولايات المتحدة على لسان أحد كبار مسؤوليها لتضرب تلك الجهود وتنسف هذه المبادرة التي لا ترى بلاده معنى ولا ضرورة لها لان الحل جاهز عند أميركا، وهو حل «ديمقراطي» كمثل الديمقراطية التي زرعتها في العراق فحولته إلى جنة فيحاء! ونموذجاً قابلا للتصدير إلى باقي المنطقة كما وعدت عندما بدأت مأساة تدمير العراق الشقيق!!
الحل جاهز وقد طرحته أميركا من قبل ورأت فيه كل الأطراف كارثة محققه ومع ذلك فها هو المسؤول ديفيد ساتر فيلد مساعد وزير الخارجية الأميركية يعيد طرحه في لحظة يعرف إنها اللحظة المناسبة لتفجير كل الأوضاع في لبنان وخارجه، وخطورة الأمر هنا أن الرجل ليس غريباً عن المنطقة، فهو سفير سابق في بيروت، وهو عالم بأوضاع المنطقة.
وهو قريب من إسرائيل ومن اللوبي المناصر لها في الإدارة الأميركية. ومع ذلك فهو يختار هذه اللحظة ليعلن أن المبادرة العربية لا معني ولا قيمة لها ولا تقدم الحل المطلوب الذي هو في رأيه أن تبادر الأكثرية بانتخاب الرئيس اللبناني بنصاب النصف + 1.
وهو ما يعني التقسيم الفعلي للبنان إلى لبنانين لكل منهما رئيسه وحكومته وهو الهدف الذي يبدو أن الولايات المتحدة تريده منذ بداية الأزمة لتكرر التجربة التي تحرص عليها - ومعها إسرائيل- في الفصل بين غزة والضفة الغربية لتسهيل التعامل مع كل طرف بما يناسب من ناحية.
وللمضي قدماً في مشروع زرع الفوضى وتقسيم الأقطار العربية المقسمة أصلا كخطوة على طريق المشروع الذي مازال في أساس السياسة الأميركية نحو المنطقة سواء حمل اسم الشرق الأوسط الكبير أو غيره من الأسماء.
وحسناً فعلت الأطراف الفاعلة في الصراع اللبناني برفض الانجرار - حتى الآن - إلى هذا المخطط الأميركي، ولكن الأهم أن تحسن هذه الأطراف قراءة التطورات السابقة في ضوء هذه السياسة الأميركية الثابتة، ثم أن تتم ترجمتها لرفض هذا المخطط بالانخراط في عملية الإنقاذ المطلوبة بأقصى سرعة، واستعادة ولو جزء من الثقة المفقودة والمطلوبة لمنع الكارثة.
القراءة المستمرة للأحداث التي وقعت في ضوء الظروف الجديدة مطلوبة وضرورية. وقد ظنت إدارة بوش عند اغتيال الرئيس الحريري والانسحاب السوري من لبنان أن لبنان قد وقع في قبضتها، وإنها قادرة - مع إسرائيل - على استكمال المهمة وضرب المقاومة وفتح الباب لتصفية الحساب مع دمشق.
وبالتالي مد سيطرتها من الخليج حتى فلسطين دون عائق. لكن الرياح لم تأت كما أراد المحافظون الجدد المسيطرون على القرار الأميركي، وتحولت العراق من قاعدة للإمبراطورية التي كانوا يحلمون بها إلى الكابوس الذي أعاد إنتاج كارثة فيتنام، وتحولت إيران من مساندة في عملية إسقاط النظام العراقي إلى القوة الأكثر استفادة من هذا السقوط.
ومع الفشل في لبنان كان العدوان الإسرائيلي الذي قادته أميركا وفرضت على إسرائيل الاستمرار فيه رغم الخسائر. ومع ذلك لم تستطع السياسة الأميركية أن تحقق مخططاتها ولكنها لم تستسلم ولم تسمح لكل المحاولات التي بذلت لتسوية الأزمة في لبنان بان تمر.
وحتى عندما دخلت فرنسا بقوة واقتربت من التفاهم مع الأطراف الداخلية ومع دمشق وباقي الأطراف العربية دخلت واشنطن على الخط وصممت على إفشال المحاولة وإبقاء التوتر، ودفع الأمور إلى المزيد من الانقسام. والدور الآن على المبادرة العربية، فسياسة واشنطن ثابتة تجاه لبنان: إبقاء الأزمة وتصعيد التوتر واستبعاد نصف اللبنانيين من المشاركة في الحكم لتدفع الجميع إلى تكريس الانقسام.
ومن هنا تأتي أهمية زيارة أمين الجامعة العربية عمرو موسى الحالية إلى بيروت. أنها لا تحمل فقط تأكيداً الفرصة مازالت موجودة للتوافق، ولكنها أيضاً تحمل إعلاناً برفض الرسالة الأميركية الرسمية التي تحاول دفن المبادرة العربية ودفع الأكثرية إلى الطريق الخطر بانتخاب رئيس بالأكثرية يكون رئيساً لنصف لبنان ومدخلاً للحرب الأهلية التي يبدو أنها أصبحت مطلباً أميركياً - إسرائيليا لخلط الأوراق مرة أخرى وفتح الباب لما هو أخطر.
ولا شك أن هذا كله يرتب مسؤوليات حاسمة على كل الأطراف اللبنانية. فالمواقف الدولية والإقليمية أصبحت واضحة، والدور العربي مطلوب، والجهد لتحقيق التوافق بين الفرقاء العرب ضروري، ولكن لا شيء سيتحقق في النهاية إلا بأيدي اللبنانيين أنفسهم. وبعيداً عن تشنجات البعض هنا وهناك فإن ما حدث من محاولات مشبوهة لزرع الصدام بين أنصار حزب الله وحركة أمل من ناحية.
وأنصار تيار المستقبل من ناحية أخرى قد نبه الكثيرين إلى عمق المأساة التي يساق لها لبنان، وإذا كان القادة الروحيون قد عملوا للتهدئة فإن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق القيادات السياسية. وأظن أن ابتعاد خطاب رئيس تيار المستقبل سعد الحريري عن خطابات الثنائي جعجع - جنبلاط الخرقاء يفتح الباب للتفاهم المطلوب والممكن والذي يستحق التنازلات من الجميع.
وأظن أيضاً أن اغتيال عماد مغنية يمكن أن يكون كباقي الاغتيالات الإجرامية التي تعاقبت منذ اغتيال الحريري -عامل تنبيه للمخاطر التي تتهدد لبنان وللتحديات التي تواجهه، بدلاً من أن يكون عاملاً في زيادة الانقسام وتبادل الاتهامات، وبدلاً من تحويل الجدل حول سبل مواجهة الإجرام الإسرائيلي المدعوم أميركيا، إلى جدل حول خطاب زعيم «حزب الله»حسن نصر الله بعد الجريمة، والذي لم يأت فيه بجديد على حقيقة الصراع الدائر مع العدو الإسرائيلي.
لقد تحدث نصر الله بشيء من المبالغة عن أن إسرائيل تخوض الآن معركة نهايتها مستنداً إلى ما قاله بن جوريون من أن هزيمة إسرائيل في حرب واحدة تعني نهايتها بعكس دول عربية تملك الإمكانيات الجغرافية والبشرية لتخوض أكثر من حرب وتتحمل خسارتها. ويستند نصر الله إلى أن إسرائيل هزمت في حرب لبنان 2006 وبالتالي فنهايتها قريبة.
والقياس هنا ليس دقيقا. فبن جوريون كان يتحدث عن محدودية قدرات الكيان الصهيوني على الصمود، وأنه إذا غزته الجيوش العربية وهزمته كانت نهايته، ومن هنا كان أحد الحلول الأساسية - وفقا لهذا التصور هو امتلاك إسرائيل القدرة العسكرية التي تفوق قدرة الدول العربية مجتمعه (وهو ما وفرته أميركا) ثم امتلاك سلاح الردع النووي الذي يمنع العرب من التفكير في نهاية عسكرية لهذا الكيان العنصري.
وهذا كله يختلف عما حدث في حرب 2006 والتي فشلت فيها إسرائيل في تحقيق أهدافها من العدوان على لبنان، وكانت بالفعل هزيمة لإسرائيل وسقوطاً لقدرتها على الردع، ولكنه يختلف عن الهزيمة التي أشار إليها بن جوريون. الإشارتان الأهم في خطاب نصر الله كانت حديثه عن « الحرب المفتوحة » وأن حرب 2006 لم تنته بعد لان إسرائيل تريد أن تنتقم لهزيمتها، وأن تستعيد هيبة جيشها التي فقدها في هذه الحرب.
وبالنسبة للحرب المفتوحة، فالأمر هنا يتعلق بان «حزب الله » كان ملتزما بعدم القيام بعمليات عسكرية ضد أي أهداف إسرائيلية خارج نطاق ارض المعركة والتي حددها بأرض لبنان وبأراضي الكيان الصهيوني المعتدي، وفي المقابل كانت إسرائيل تتبع نفس السياسة.
ولكن اغتيال عماد مغنية في دمشق يفتح الباب لتغيير قواعد اللعبة. وإسرائيل عندما ارتكبت جريمتها كانت تعلم ذلك، وهي في كل الأحوال كانت تعرف أن حزب الله سيرد الضربة سواء تم الاغتيال داخل لبنان أو خارجه.
لكنها وهي تغير قواعد اللعبة كانت تريد دفع حزب الله إلى ما كان يتحاشاه وهو العمل خارج حدود معركته الأساسية، وذلك على أمل أن خروج حزب الله للانتقام في دول أخرى قد يساعد في محاولة تشويه صورته أمام رأي عام عالمي مازال في معظمه يرفض تصنيف الولايات المتحدة للحزب كمنظمة إرهابية.
و مع ذلك فمع إعلان نصر الله أن الرد على الاغتيال أمر لا شك فيه فان حديثه عن الحرب المفتوحة (أي خارج ارض المعركة الأساسية) كان مشروطاً بالاستعداد لذلك (إذا أرادت إسرائيل هذه الحرب)، أما الإشارة الأخرى إلى أن حرب 2006 لم تنته لان إسرائيل تريد الانتقام لهزيمتها، فهو أمر لا تخفيه إسرائيل، وبالتالي لابد من الاستعداد لمواجهته سواء في لبنان أو في غيره من الدول العربية المهددة بالعدوان.
بل أن السؤال هنا لا يقتصر على حرب 2006 بل يمتد إلى كل حروب إسرائيل. . بمعني هل تعتبر إسرائيل أن حرب 48 قد انتهت؟ باليقين: لا، لأن ذلك يعني أن تتوقف عن العدوان والتوسع والاستيلاء على الأرض العربية، وأن تتحول إلى دولة طبيعية لها حدود وتخضع للشرعية الدولية.
من هنا فلا جديد في خطاب نصر الله رداً على اغتيال عماد مغنية يستحق الجدل العقيم ويفتح الباب لمن يحاولون تبرير جرائم إسرائيل، أو تحميل المقاومة اللبنانية مسؤولية ما قد يكون العدو يخطط له لمجرد أن هناك من يرفض أن يترك الثأر لشهدائه وضحاياه.
فليتوقف الجدل الذي لا طائل منه، فالكل يدرك حجم الخطر. ولنمنع المؤامرة التي لم تخفيها أميركا لاغتيال المبادرة العربية. فالقضية لم تعد اغتيال قائد من هذا الطرف أو ذاك، بل هي من البداية وحتى النهاية. . محاولة اغتيال لبنان.