محمد صادق إسماعيل*
لا زالت إشكالية أمن الخليج العربي تثير اهتمام العديد من الباحثين في شتى أرجاء الوطن العربي، ومبعث ذلك هو الأهمية الجيوبوليتيكية والجيوإستراتيجية لتلك المنطقة التي تُعدّ مثار اهتمام القوى الكبرى على الصعيد العالمي، نظرا لما تمتلكه دول المنطقة من ثروات نفطية هائلة، الأمر الذي يدعو إلى البحث عن صيغة فاعلة لتحقيق أمن الخليج في ظل التهديدات الدولية والإقليمية.
الولايات المتحدة وأمن الخليج
لا يمكن الحديث عن أمن الخليج بدون الإشارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت أكثر حضورًا وأكثر تغلغلا وأكثر تأثيرًا في حاضر ومستقبل النظام الإقليمي الخليجي.
هذا الحضور والتغلغل والتأثير يزداد ويشكل المزيد من العبء على الأمن والاستقرار في هذا الجزء الحيوي والإستراتيجي من الوطن العربي، ذلك أن هذا الحضور الأمريكي الراهن يوازي في حجمه وتأثيره وتغلغله الحضور الاستعماري البريطاني في الخليج العربي والذي استمر لحوالي 150 سنة حيث تهدف الولايات المتحدة إلى إدارة شئون النظام الإقليمي الخليجي الذي ما زال يبحث دون جدوى عن الأمن والاستقرار والهدوء.
لقد ظلت دول النظام الإقليمي الخليجي تبحث عن الاستقرار وتتحدث عن الأمن، إلا أنها لا تجد على أرض الواقع سوى التوترات والمزيد من التوترات والصراعات التي سرعان ما تتحوّل إلى أزمات مستعصية وحروب عنيفة، وذلك بواقع حرب واحدة كل عشر سنوات كان آخرها الحرب على العراق.
هذه الحرب التي ربما لن تكون الأخيرة، أكدت أن الولايات المتحدة هي الخطر الأكبر والسبب الأهم في انعدام الأمن في النظام الإقليمي الخليجي حيث إن التدخل الأمريكي، وليس التهديد العالمي أو الإقليمي أو الداخلي هو مصدر معظم التوترات في هذا النظام، فالتوترات الراهنة مرتبطة باحتلال أمريكا للعراق، وتصعيد واشنطن للمواجهة مع إيران، وممارسة مؤسسات صنع القرار الأمريكية للضغوط على المملكة العربية السعودية من أجل المزيد من الإصلاحات والتي قامت المملكة بالفعل بإجراء بعضها؛ لذلك فإن المخرج هو انسحاب الولايات المتحدة السياسي والعسكري من النظام الإقليمي الخليجي، وذلك كما فعلت بريطانيا عام 1971، ذلك أنه لن يتحقق الأمن في النظام الإقليمي الخليجي من دون هذا الانسحاب، فأمن الخليج خاص بدوله فقط كما تؤكد دول مجلس التعاون ذاتها، حيث إنها قادرة على التعايش فيما بينها والاتفاق على معادلة أمنية معقولة ومقبولة تأخذ بعين الاعتبار مخاوف الدول الصغيرة ومتطلبات الدول الكبيرة ومصالح الدول الصناعية.
خيارات مطروحة للتعامل مع مشكلة أمن الخليج
نستطيع أن نجمل الخيارات المطروحة في أربعة مجالات؛ هي: رفع قدرات وتدعيم قوة درع الجزيرة، ومقترحات دول إعلان دمشق الدفاعية، والتواجد الأمريكي بالخليج ودوره، وإقامة حزام دفاعي خليجي من خلال التقارب الإيراني.
فإذا بدأنا بقوة درع الجزيرة فسنجد أنها قوة تكونت من ما مجموعه حوالي ست كتائب من دول مجلس التعاون الخليجي بمهمة دعم أي دولة من هذه الدول يقع ضدها أي اعتداء بري، وقد قدّرت الأمانة العسكرية أخطر اتجاهات التهديد من بداية الأمر على أنه في اتجاه محور العراق/ الكويت، ولذلك فقد تمركزت هذه القوة في منطقة حفر الباطن شمال شرق السعودية في اتجاه الكويت، غير أنه لم يكن هناك أحيانا تصور واضح لاستخدام هذه القوة، ففي إحدى التدريبات السنوية صدرت لهذه القوة مهمة ضد إيران، تتم من خلال المياه الإقليمية في سلطنة عمان، فكان عليها أن تتحرك ما يزيد عن الألف كيلو متر ثم تقوم بتنفيذ المهمة، وقد شاب مثل هذا التدريب بالطبع مشكلات في الفكر الإستراتيجي، وهي تلك التي تمثلت في تحريك قوة بهذا الحجم الصغير من اتجاه إستراتيجي إلى اتجاه إستراتيجي آخر، رغم وجود قوات ذات أحجام أكبر وأقرب إلى ميدان العمل، ومشكلات في الاستخدام الفني للمعدات وخاصة المدرعات، والتي ينص استخدامها الفني على ضرورة إجراء عمرة كاملة لها بعد مسيرة 500-700 كيلو متر وقبل دخولها في أي قتال.
وعلى الأرجح فقد كان تكوين هذه القوة رمزا لوجود التعاون العسكري بين دول المجلس ليس أكثر، وليس أدلّ على ذلك من دور هذه القوة أثناء الغزو العراقي لأراضي الكويت في أغسطس 1990، وبالتأكيد فإن من المهم أن يستمر الاحتفاظ بهذه القوة وتنمية قدراتها وإمكانياتها، خاصة في ظل وجود القوات المتحالفة بالخليج، لكن مع تعديل مهامها لتعمل كقوة تدخل سريع لتأمين الأهداف الحيوية في دول مجلس التعاون الخليجي.
أما مقترحات دول إعلان دمشق للدفاع عن منطقة الخليج، والذي أبدت الكويت عدم قبولها لها في مرحلة مبكرة، فمن المعتقد أن هذا جاء في إطار محدّدات الدور العربي في الدفاع عن الخليج، وهذا ما جعل كلا من مصر وسوريا تسحبان قواتهما التي اشتركت في حرب تحرير الكويت من الخليج، وهنا أصبح التوصل إلى سياسة أمنية موحدة ضرورة ملحة لقادة دول مجلس التعاون بعدما وضح لهم أن دولهم تواجه تهديدات جادة مشتركة.
أما عن التواجد العسكري الأمريكي في منطقة الخليج فقد مرّ بعدة مراحل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فحتى ذلك الوقت رفض أصحاب القرار السياسي في واشنطن أي تورط دبلوماسي أو عسكري في الخليج مع استمرار وجود مصالح اقتصادية متفرقة لها بالمنطقة، ويمكن القول بأن الوجود البريطاني في المنطقة كان كافيا لحماية هذه المصالح آنذاك، إلا أنه مع ازدياد المصالح الأمريكية في المنطقة تضاربت المصالح، خصوصا بعدما بدأ تقلص الوجود البريطاني من شرق السويس، وظهور حجم النفط الهائل بالمنطقة.
ومن هنا بدأ ارتباط الولايات المتحدة بالمنطقة يصبح أمرا حيويا لها إلى الحد الذي أعلن معه الرئيس السابق كارتر مبدأه الذي نصّ على أنّ أي محاولة تقوم بها قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج العربي ستعدّ اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية وسيتم الردّ على هذا الاعتداء بكل الوسائل الضرورية، بما فيها القوة العسكرية.
وبديهي أن تنفيذ هذا المبدأ كان يتطلب وجود قوات عسكرية فعالة على مقربة من مسرح الأحداث في الخليج، خاصة بعد الفشل الذريع في عملية إنقاذ الرهائن في إيران، والتي قامت بها قوة تحرّكت من ولاية نورث كارولينا لتنفيذها.
إذن أصبح الوجود العسكري الأمريكي ضرورة أمريكية حتمية، لذلك فقد قررت إدارة الرئيس ريجان فيما بعد أنه على الولايات المتحدة أن تتولى حماية مصالحها عسكريا من داخل المنطقة، وفعلا استخدمت الولايات المتحدة في الفترة بين عامي 87 و89 القطع البحرية الأمريكية لإحباط التصعيد الإيراني في الخليج العربي وشمال بحر العرب، بل جاء قرار ريجان آنذاك برفع العلم الأمريكي على ناقلات البترول الكويتية كنقطة تحوّل في طبيعة الوجود الأمريكي في الخليج العربي، بما يمكنها من تنفيذ ما وعد به مبدأ كارتر.
وتصاعد الوجود الأمريكي في المنطقة حتى تمركزت في معظم دول مجلس التعاون الخليجي وحدات عسكرية أمريكية برية وجوية، وأصبح الوجود البحري المكثّف على مياه الخليج العربي حقيقة واقعة، ويقينا سيظلّ الوضع على هذا الحال حتى لو أحجمت دول الخليج عن دفع فواتير التكاليف، على الأقل خلال الحقبة القادمة.
حزام أمني
لكن يظلّ أهم ما يتمّ التفكير فيه هو أن تستفيد دول الخليج من هذا الوضع الجديد لتأمين نفسها والاتجاه إلى التنمية البشرية والاقتصادية ورفع كفاءة قدراتها العسكرية بالتوازي مع خيارات الدفاع الخليجي الأخرى؛ لذا بدأ مشروع إقامة حزام أمني يشمل دول مجلس التعاون الخليجي في التبلور، متخذا بعدين أساسيين:
البعد الأول: هو تأمين الرقعة الجغرافية لكل دولة من دول المجلس بقدراتها المحدودة بالتعاون مع القوات الأجنبية وأساسا الأمريكية، والتي سمحت لها بالتمركز في أراضيها، وذلك ضدّ أي عدوان عسكري يمكن أن يقع على هذه الدول.
البعد الثاني: تأمين المجالين البحري والجوي لدول المجلس من خلال أحزمة دفاع جوي وبحري تنشئها دول المجلس بقدرات عالية تعتمد على أسلحة جوّ وبحر متقدمة، تحقق لها التفوق الجوي والبحري بالمنطقة، وذلك من خلال ترسانات الأسلحة الغربية في الأساس.
وقد بدأت مظاهر ذلك في اتجاه دول المجلس إلى تحديث قواتها البحرية بشراء وحدات كبيرة ذات أنظمة متطورة وقدرات عالية، وأعداد كبيرة من الطائرات العامودية التي تستخدم في مقاومة الغواصات وفي الاستطلاع البحري، علاوة على أنظمة الدفاع الساحلي، وفي مجال القوات الجوية قدمت دول الخليج طلبات لشراء أعداد كبيرة من طائرات الميراج 2000 الفرنسية وطائرات إف18 الأمريكية، علاوة على ما هو موجود أصلا لديها من هذه الطائرات.
ومن المفترض أن هذا الخيار الأخير يحقق إستراتيجية دفاعية متوازنة لدول الخليج تتيح لها التأمين اللازم لأراضيها والقدرة على ردع العدوان البحري والجوي دون تدخل دولي حادّ قد يورطها في إعلان الحرب ضد المعتدي، وليس أدلّ على ذلك من مشكلة جزر الإمارات الثلاث وأسلوب معالجة الموقف في ظل الوجود الأمريكي الحالي سواء بالإمارات أو بالخليج.
على أنه يبقى خيار قائم، وهو ما تسعى له بعض دول الخليج حاليا، وهو العمل على إنهاء الخلافات وتطبيع العلاقات مع كل من العراق وإيران، وجعل الخليج العربي منطقة سلام، ومن الطبيعي أن يقلّل ذلك من مظاهر التهديد المتربصة بدول الخليج في حالة تجاوب العراق وإيران بحسن نية لمثل هذه التوجهات، خاصة فيما يتعلق بالطرف الإيراني والتوجه الخليجي نحو التقارب معه والذي بدأت بدايته الأولى منذ تولي الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، والذي سعى لتنفيذ أجندة سياسية معتدلة مع دول الخليج، الأمر الذي لاقى استحسانا كبيرا من هذه الدول، إلى جانب سعي دول الخليج ذاتها إلى التقارب بالمثل مع الطرف الإيراني.
وعلى الرغم من أن الفترة الحالية تشهد مؤشرات للتقارب بين الجانبين، فإنّ سياسات الرئيس أحمدي نجاد المشوبة بتصريحات نارية تجاه الولايات المتحدة قد تؤدي لعرقلة هذه الجهود في اتجاه المصالحة والتقارب، ذلك لأنّ الطرف الإيراني يجب أن يترسخ في ذهنه عقيدة راسخة مفادها أنّ دول الخليج لا يمكنها أن تنهي الشراكة الإستراتيجية الحالية مع الولايات المتحدة حيث إنّ كلا منهما بحاجة للآخر وإن كانت الأهداف والرؤى الإستراتيجية تختلف بالنسبة للطرفين.
مجلس التعاون ونجاحه كصيغة مستقبلية
لقد أقام مجلس التعاون صيغة للمستقبل، وسوف تدفع دوله بأقصى ما لديها لفرض أمن الخليج عن طريق بناء القوة العسكرية الذاتية، والتكامل السياسي، والاقتصادي، والمحافظة على التركيبة السكانية في ظروف أظهرت الدراسات فيها أنّ سكان الخليج يتضاعفون مرّة كل خمسة وعشرين عاما، مع أن مسيرة النمو الاقتصادي لهذه الدول هي في الاتجاه المعاكس.
ولذا، فإن أمن الخليج بناء على مبدأ الدفاع الذاتي في المستقبل المنظور ستعوقه قضايا السيادة الوطنية، كما ستعوقه قضايا التسلح التي منها التسلح غير المدروس، وعدم توحيد المعايير والمقاييس في الأسلحة المستخدمة، والإهدار على المشروعات المدنية، مع تجاهل البنية التحتية ذات البعد الإستراتيجي، مثل تجهيز المواني والمطارات للنقل الإستراتيجي، وقد اتضح هذا جليا منذ حرب تحرير الكويت والتي أكدت بما لا يدع مجالا للشك أنّ الاعتماد سيظلّ كبيرا بالنسبة لدول مجلس التعاون على اللاعب الأجنبي، وسيكون هذا اللاعب الأجنبي طرفا أساسيا في منظومة العلاقات الإقليمية الخليجية، على رغم افتقاده عامل الجوار الجغرافي.
لقد حان الوقت كي تتعاون دول النظام الإقليمي الخليجي وتدير علاقاتها باستقلالية عن واشنطن وتتولى وحدها مسئولية الأمن في هذا الجزء المهم من الوطن العربي، ذلك أن المطلوب كخطوة أولى بناء الثقة وفتح حوار خليجي/خليجي على كافة المستويات الرسمية والشعبية من أجل بلورة معادلة أمنية واقعية قائمة على الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، والحد من سباق التسلح، وإنهاء القواعد العسكرية الأجنبية، والاستغلال الأمثل للثروة النفطية، وإجراء إصلاحات سياسية عميقة تعيد للشعوب دورها الحيوي في صنع القرارات عبر مؤسسات منتخبة تتفرغ لمهمة واحدة ووحيدة هي تحقيق التنمية المستديمة التي طال انتظارها.
* باحث في الشؤون الخليجية